عرفت دائرة العلوم الاجتماعية، المشاركة السياسية بأنها: "تلك الأنشطة الإدارية التي يشارك بمقتضاها أفراد مجتمع في اختيار حكامه، وفي صناعة السياسة العامة، بشكل مباشر أو غير مباشر، أي أنها تعني اشتراك الفرد في مختلف مستويات العمل والنظام السياسي".
وبناء على ذلك فان المشاركة السياسية تعني إشراك المواطنين في إدارة الشؤون العامة، أو اختيار القادة السياسيين على المستوى الوطني أو المحلي، والتدخل في السياسات العامة والبرامج والأنشطة والفعاليات، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مثل الترشيح للانتخابات أو التصويت فيها أو الترويج لها أو المشاركة الكتابية، أو التبرع بالمال أو الوقت لإنجاز بعض الأعمال ذات الصلة بالحكم والسلطة، أو الانضمام إلى الأحزاب السياسية أو مجموعات الضغط أو المنظمات غير الحكومية، فضلا عن أنشطة ابداء الرأي أو الاعتراض أو المقاطعة وغيرها.
تعتبر المشاركة السياسية روح العملية السياسية لأي نظام يريد أن يستند إلى القاعدة الشعبية، وهي الطريقة الوحيدة لمقاومة وتقليل تحكم الصفوة في الحياة السياسية، كما أنها الأداة الفاعلة لتحقيق الإرادة العامة ومصلحة المجموع، وتعد من الأركان الأساسية التي تستند عليها النظم السياسية في تحقيق شرعيتها، فكلما اتسعت رقعت المشاركة السياسية كان ذلك أدع للقبول العام في المجتمع.
هذا فضلا عن أن المشاركة السياسية ترتبط بالحرية الشخصية للمواطن، وسيادة قيم المساواة، وبإقرار الحاكمين بالحقوق الدستورية والقانونية للمحكومين التي تمنحهم حق المشاركة في اتخاذ القرار، وإتاحة الفرص أمامهم لممارسة هذا الحق دون ضغط أو إرهاب.
والسؤال هنا ما هي المساحة التي أتاحها الإسلام للمواطنين لأغراض المشاركة السياسية؟ وماهي حدودها؟ وماهي آلياتها؟
بغض النظر عن الاختلافات بين فقهاء المسلمين بشأن نص الإسلام على قيام نظام سياسي محدد أو بشأن مشاركة المسلمين في السلطة في ظل نظام غير "إسلامي" فان هناك شبه اجماع أن الإسلام نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي. وهذا النظام المستند إلى القواعد الإلهية والفطرة البشرية، يستلزم مشاركة جميع المسلمين على نحو يحقق مصالحهم في الدنيا وفي الآخرة، وبدون هذه المشاركة لا يمكن تصور قيام نظام إسلامي مستقر ومستمر ومزدهر.
وبناء عليه، فالسعي لتحقيق الأهداف العامة للدولة من وجهة نظر الإسلام لا يكون فعالاً إلا من خلال مشاركة شعبية واجبة ومتأتية من منطق المسؤولية العامة للفرد. لذا يتوجب على المسلم المشاركة في الشؤون العامة للمجتمع، والإسهام الفكري والعملي في كل ما هو متصل بالشأن العام للمجتمع في آفاقه المحلية أو الإنسانية العامة.
يقول المرجع الديني السيد صادق الشيرازي الحسيني: إن السياسة التي تفسر بتنظيم أمور دنيا الناس على أحسن وأرفه وجه، الذي هو مضمون قوله تعالى في وصف الرسول الأعظم "ص": (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) السياسة بهذا التفسير هي من صميم الإسلام، ومن أسس الدين، التي يجب على كل فرد من المسلمين السعي لتطبيقها على العالم كله، وبمختلف الوسائل والسبل المشروعة.
وفي الشريعة الإسلامية نصوص كثيرة وكثيرة جداً، تدل على أن السياسة جزء لا يتجزأ من الإسلام، بل الأصح في التعبير أن نقول: الإسلام والسياسة لفظان لمفهوم واحد، فالسياسة هي الإسلام، والإسلام هو السياسة بمعناها الصحيح العام. وفي الحديث الشريف: «ثم فوض إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر الدين والأمة ليسوس عباده". وفي حديث آخر: «كان بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم».
ولكن السؤال الأهم هنا كيف يمكن أن يحقق الإسلام مشاركة حقيقية للمواطنين في إدارة شؤون البلاد والعباد؟ وكيف يضمن الإسلام أن هذه المشاركة ستكون مؤثرة على مستوى القوانين والقرارات والسياسات العامة؟
يرى الإمام المجدد محمد الشيرازي أن النظام الشوروي، هو الأقرب إلى طاعة الله سبحانه، والأكثر اتساقاً مع مصلحة الأمة، بقوله: (إنه لا إشكال في أن كل نظام كان أقرب إلى طاعة الله، وأبعد عن سيطرة الظالمين، وأنفع للمسلمين، فهو واجب لا يجوز التنازل عنه إلى نظام ليس كذلك. ولا شك أن نظام الشورى فيه هذه الخواص؛ إذ ليس في قبال الشورى إلا الديكتاتورية...)، وأكد على ضرورة التزام مبدأ الشورى في الحكومة الإسلامية؛ بغية اتساق هذه المصالح، وضمان استمرارها، والنأي بها من آفة الاستبداد والدكتاتورية عبر مبدأ الانتخاب.
يستدل السيد محمد الشيرازي (رحمه الله) على وجوب تأسيس النظام على أساس الشورى، من أن النبي" كان يأخذ بالمشورة في بعض الأمور، كما في غزوة بدر وغزوة الأحزاب وغيرها، وإذا كان النبي (ص) على عظمته يأخذ بالشورى حسب ما أمره الله سبحانه وتعالى (وشاورهم في الأمر) (آل عمران/159)، في الأمور التي كانت أقل خطراً من الولاية، كان لزوم الأخذ بالشورى لغير النبي (ص) الذين هم دونه (ص) في العقل والدراية، في الأمر الأهم الذي هو الولاية، بطريق أولى، فنحن مأمورون بالاقتداء به (ص)؛ حيث قال سبحانه وتعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنه).
قد جعل الدين الإسلامي رأي الأمة مداراً أساسياً لشرعية الحاكم والسلطة، إذ قرر أن الشورى هي الوسيلة التي تستمدّ منها السلطة وجودها عبر كسبها لرضا الأمة ابتداءً واستمراراً. إذ يرى الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي: أن كل شيء يرتبط بشؤون الأمة لابد من الاستشارة فيه سواء في أصل الجعل أو تابعه، فإنّها تتصرف بمال الأمة ومقدراتها ولا يحق لأحد أن يتصرف في مال غيره إلا بإذنه، كما أنها تتصرف في كيان الأمة، ولا يحق لأحد أن يتصرّف في غيره إلا بإذنه، ومن الواضح أن رضى الأمة وإجازتهم، في طول رضى الله سبحانه وإجازته: فاللازم أن يكون التصرّف حسب الرضائَين.
فالله سبحانه وتعالى هو الذي منح هذه الشرعية للإنسان لأنه منحه السلطة على ماله ونفسه وحياته وخلقه حراً كريم، لذلك فإن أي حكومة أو سلطة لا تستطيع أن تتصرف دون أن تنال رضا الفرد والأمة، لأن أي تصرف سوف يكون تصرفاً في ماله وتدخّلاً في حرّيته وملكيّته. والانتخابات تمثل آلية العمل التي من خلالها ينتخب المواطن وكلاء يمثّلون مصالحه ويحمون حقوقه المشروعة.
بناء على هذا، تحظى الانتخابات من منظور إسلامي بأهمية كبيرة، وذلك لكونها تمثل وسيلة فعالة من وسائل إدارة الأمة بالطرق السلمية المقبولة عرفا وشرعا. حيث أن الانتخابات لا تقتصر على اختيار قيادة السلطة، وحسب، بل، تتعداها إلى كل إدارة شؤون البلاد السياسية والاقتصادية والتعليمية والإدارية...
وقد أكد هذا المعنى الإمام الشيرازي بقوله: يجب أن يكون الحاكم. منتخبا بانتخابات حرة، كما قال أمير المؤمنين "ع" (أن يختاروا) وهذا هو المتعارف عليه الآن في البلاد الديمقراطية، ولذا نرى لزوم إجراء الانتخابات في إدارة كل شيء حتى في معمل أو شركة صغيرة أو ما شابه ذلك، فانه يشمله قوله سبحانه (وأمرهم شورى بينهم)، لان الشورى؛ إنما هي نتيجة الانتخابات، أو أن الانتخابات هي نتيجتها.
ويذهب الإمام محمد الشيرازي إلى أن الديمقراطية لا تتحقق في أي مجتمع إسلامي أو غير إسلامي، ما لم يشترك جميع المواطنين في انتخاب الهيئة الحاكمة، فهو لا يقصر الانتخاب على الرجل دون المرأة، كما في بعض القوانين الوضعية في الدول العربية وغير العربية، ولا للمواطنين البالغين دون غير البالغين، بل يعطي حق الانتخاب لغير البالغين أيضا، عبر وليه الشرعي والقانوني.
وتؤكد مدرسة الإمام الشيرازي، أن الأمة لكي تتخلص من الدكتاتورية والاستبدادية، عليها أن تختار وتنتخب قياداتها -على الأقل -في أهم مستوياتها، وهي:
الأول: انتخابات السلطة العليا من الفقهاء الذين هم مراجع الأمة (حقيقة لا صورياً أو مجازيا) فيكون لهم مجلس الشورى.
الثاني: انتخاب رئيس الدولة، مما يصطلح عليه في الزمن الحاضر بـ (رئيس الجمهورية).
الثالث: انتخاب (مجلس الأمة) لنواب الأمة في انتخابات حرة.
نخلص مما تقدم ما يأتي:
1. يؤكد الإسلام أن التصرف في شؤون الأمة، هو من حق الأمة فقط، ولا يستطيع الآخرون أن يتصرفوا في شؤونها إلا بتوكيل ورضا منها؛ وعليه فان للناس أن يشتركوا بشكل مباشر وغير مباشر في إدارة شؤونهم وتحقيق مصالحهم، سواء بالانتخاب أو التصويت أو الموافقة أو الاعتراض أو المقاطعة.
2. إن الناس في الإسلام أحرار في انتخاب أية حكومة يشاءون، وهذا الأصل يتطابق وأصل الحرية الممنوحة للمسلمين، وبموجبه كانت إحدى مهام النبي (ص): (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) وعليه فالمسلمون أحرار في انتخاب مرجع التقليد والقاضي وإمام الجماعة. وهكذا في انتخاب الحاكم؛ ومجالس الشعب وغيرها، إذْ يمكنهم أن ينتخبوا أي شخص يشاءون لتولي هذا المنصب.
3. يجب على الحاكم أن يتقلد منصب الحكومة برضا الناس وموافقتها، وكان هذا الأمر يتم في السابق عن طريق انتخاب أهل الحل والعقد وهو ما يعتبر صورة من صور الانتخابات العامة. لأنه لا مكان للسيف والوراثة في نظرية الحكم في الإسلام.
4. من الضروري تنظيم وتعليم وتدريب الشباب على الانتخابات الحرة والمؤسسات الدستورية والتنافس الإيجابي ومختلف الحريات المشروعة، فإن الإنسان إذا لم تتوفر له مناخات الحرية، لن يبدع ولن يتقدم فلا تظهر ولا تنمو كفاءاته.
5. يكون للفرد الحق في تمثيل مصالحه حتى بعد نجاح المرشحين في الانتخابات، لأن المرشح الفائز في الانتخابات، يعتبر ممثلاً ووكيلاً للشخص الذي انتخب لذا لابد له أن يتواصل معه حتى تصبح شرعيته مستمرة، لذلك فإن الذين يستغلون الناس للوصول إلى السلطة يفقدون شرعيتهم عندما يتخلون عن تمثيلهم للمواطن الذي انتخبهم.