تصدر العديد من القوانين والأنظمة والتعليمات والضوابط والتوجيهات عن المؤسسات الحكومية المختلفة، كل منها حسب صلاحياتها واختصاصاتها. وتسعى المؤسسات من وراء تلك التشريعات إلى تنظيم حياة الناس وتحقيق الاستقرار في المعاملات في إطار احترام حقوق الإنسان والحق في المساواة.
مع ذلك، لا يمكن القول إن التشريعات الحكومية -أيا كانت- تحقق أهدافها ومقاصدها دائما، فالأسباب الموجبة لسن تلك التشريعات قد لا تجد طريقها إلى التطبيق أو تطبق بطريقة خاطئة. ولا يعود الأمر إلى الصياغات القانونية واللغوية التي صيغت بها تلك التشريعات، ولا إلى إغفال بعض الغايات والمقاصد الأساس، في زحمة صراع المصالح، بل ربما فهم النصوص لدى موظفي السلطات التنفيذية، وجهل أصحاب المصالح والمستفيدين بحقوقهم، قد يساهم في تعطيل غايات تلك القوانين، وظهور نتائج سلبية غير مقصودة قطعا من تلك التشريعات.
فماذا يحصل لو أن المقصود من "القانون" وهو تحقيق مصالح الناس وتنظيمها أو تلبية بعض احتياجاتهم لا يتحقق دائما؟ وماذا يحصل لو تضرر عدد كبير من المواطنين من القانون بطريقة غير مقصودة؟ وماذا يحصل لو لبى القانون حاجات بعض المستفيدين وعجز عن حاجات الآخرين؟ وماذا يحصل لو أن القانون لم يكن واضحا للجهات والأشخاص المكلفين بتطبيقه؟ وماذا يحصل لو أن تطبيقات القانون -بقصد أو بدون قصد- لم تكن منسجمة مع نص القانون وروحه؟ وماذا يحصل لو أن المستفيدين من التشريع يجهلون كيفية تحصيل حقوقهم وفق القانون أو يعجزون عن تحقيقها؟
صحيح أن الدولة هي التي تضع القانون، ولكن صحيح –أيضاً- أنها لا تضعه اعتباطاً، وإنما اعتماداً على معرفة مجمل الظروف المحيطة بالمجتمع، من ثقافة وعلاقات اجتماعية وسياسية وأعراف... والغاية المرجوّة من القانون –أي قانون- هي تنظيم العلاقات الاجتماعية التي تتفاعل مع مؤثرات سياسية اقتصادية ثقافية وتاريخية، وغيرها، ولا يمكن تنظيم العلاقات من دون الاهتمام بهذه العوامل المؤثرة فيها.
وصحيح أن مؤسسات الدولة هي المدعوة أساسا لتنفيذ القانون، بما لها من قدرة وقوة، من أجل المحافظة على مصالح المجتمع عامة. مع ذلك، أن وجود القانون المدوّن أو وجود مؤسسات لتطبيقه، لا يكفي لحماية المجتمع وإصلاحه وتحقيق احتياجه، فلكي يصبح القانون أساساً لإصلاح البشرية وإسعادها، فإنه يحتاج إلى من يعمل على تطبيقه، ويحرص على تنفيذ فقراته كما هي، وكما هي روح القانون والغاية من تشريعه، وإلا فان القانون نفسه سيكون سببا رئيسا لتعاسة الناس، ونشر الفوضى بينهم.
يقول فقهاء القانون إن "من الحقائق العلمية أن وراء كل قاعدة قانونية اعتبارات غائية تتحكم في وضعها؛ فالقوانين -شرعية كانت أم وضعية- إنما وضعت لتكون خادمة للقيم التي يراد لها أن تسود في حياة الناس، وخاصة قيم العدالة والمساواة والحرية والنظام والتقدم، ومن ثم فالقانون الذي لا يخدم القيم ولا يساعد على حمايتها في المجتمع، ولا يلبي مصالح الناس ولا احتياجاتهم، ولا توجد مؤسسات تطبقه وتنفذه كما هو، يصبح القانون بلا فاعلية وبلا جدوى".
بناء على ذلك، يجب أن يقاس القانون على أساس نتائجه، بالنسبة إلى بناء المجتمع، سواء في الزمن الحاضر (النتائج المباشرة) أو في المستقبل (الأثر) لنعرف مستوى النفع والضرر الذي حققه تشريعه. ولكي نعرف النفع والضرر في نتائج القانون، يجب أن نقيس مدى اللذة والألم فيه، وأيهما (اللذة والتنعّم أو الألم والشقاء) هو الأكثر. وفي معيار اللذة والألم، يجب ألا نهتم بأحد أكثر من غيره، بل نقيس ذلك على أساس عامة أبناء المجتمع.
من هذا المنطلق على الدولة -أي دولة -ألا تفكر -فقط -في تشريع قانون ما، لحل مشكلة ما، بل عليها -أيضا -بل يجب عليها أن تتفحص وتقيس أثر ذلك القانون من حيث نصه؛ ومن حيث تطبيقه، هل حقق غاياته أم لا؟ فان حقق غايته وحصل المواطنون على حقوقهم، كما حددها القانون فنعم القانون هو، وإلا عُدل بالشكل الذي يحقق أهدافه، ولو كان ذلك لعدة مرات؛ فالحكمة ليس في التشريع قطعا، بل في أهداف التشريع وغايته.
الحقيقة لا يمكن أن نغفلها في بلادنا، ما يحدث من نتائج سلبية واضحة على المواطنين نتيجة تشريع قوانين وقرارات وزارية، هدفها خدمة شريحة اجتماعية ما، ولكن سرعان ما تنقلب الأمور رأسا على عقب، والسبب الحقيقي هو إما أن التشريع غير مستكمل لشروطه، أو أن التطبيق يكون صعبا أو مستحيلا. وعليه؛ فلا يحقق القانون غاياته وأهدافه، ولا نتائج واقعية يلمسها المواطنون من التشريع، وكأن شيئا لم يكن.
هناك الكثير من القوانين والقرارات، صدرت لصالح فئات اجتماعية معينة، لاسيما الفئات الأكثر ضررا في مجتمعنا لأسباب سياسية أو أمنية أو اجتماعية، مثل قانون مؤسسة الشهداء، وقانون مؤسسة السجناء، وقانون الفصل السياسي، وقرارات مجلس الوزراء حول الجرحى من القوات الأمنية والحشد الشعبي، وقرارات تعينات ذوي الشهداء، وقرارات الرعاية الاجتماعية، وقرارات الكفاءات الأكاديمية، وغيرهم ما تزال متلكئة تماما، كأن المطلوب من هذه القوانين هو تشريعها فقط من أجل إرضاء هؤلاء المضحين بقوانين، ولكن مع وقف التنفيذ.
فمع أن مثل هذه القوانين تصدر لخدمة تلك الشرائح الاجتماعية، وهي بالفعل ساهمت إلى حد ما بتحقيق بعض حقوقهم إلا أنها باتت بحكم المعطلة بالفعل، حيث يتقدم هؤلاء المضحون من مؤسسات الدولة الانتقالية للحصول على حقوقهم القانونية، ولكن يصطدمون بان حقوقهم لا يمكن تلبيتها لأنها مرتبطة بوضع جهة حكومية أخرى، وهذه الجهة لا تتعاون لأسباب إما أنها لا تقدر على تلبية تلك الاحتياجات، أو تضع عراقيل في طريقها؛ تحت مبررات مختلفة.
ويظل المواطنون المستفيدون من تلك القوانين ينتظرون سنين عدة، عسى أن يحصلوا على جزء من تلك الحقوق والامتيازات، ولكن قلما يحصل بعضهم على جزء من حقه. ولا يتعلق الأمر بالأوضاع المالية الأخيرة، نعم أن الأزمة المالية زادت الطين بله، ولكن المشكلة متعلقة بطبيعة تشريع تلك القوانين، وبطبيعة التعاون والتنسيق بين الجهات الحكومية ذات العلاقة التي غالبا ما تتذرع بعدم مكنتها المالية وقدرتها على إعطاء حقوق هؤلاء المضحين وذويهم. بل بطبيعة الموظفين الحكوميين المكلفين بتطبيقها أو المساعدة بتطبيقها!
اليوم، يرى المتابعون أن أكثر الطلبات والتظلمات والشكاوى التي ترفع إلى مؤسسات الدولة العراقية، تأتي من تلك الشرائح الاجتماعية المضحية التي شرعت لها تلك القوانين، حيث يتظلمون من أنهم لم يحصلوا على حقوقهم، أو أن القانون كان فيه إجحاف بحقهم، أو أن تطبيقات القانون لم تكن سليمة كما هو نص القانون وروحه.
نخلص مما تقدم إلى الآتي:
- أن القانون هو ظاهرة اجتماعية تفرضها الظروف المحيطة بالمجتمع، وهدفه بناء قيم العدالة والإنصاف والمساواة، وتحقيق مصالح الناس وتنظيمها وتلبية احتياجاتهم.
- يوضع القانون من أجل المجتمع الإنساني، والمجتمع كتلة من الحاجات والتطلّعات، ويتطور المجتمع بين حين وآخر، وعلينا دراسة هذا المجتمع دراسة وافية تشمل مكوناته ومتغيراته معاً، حتى لا نضع قانوناً مخالفاً لمصالحه أو قيمه.
- القانون وحده لا يمثل حلولا لمعاناة المجتمع وفئاته، بل هو خطوة في طريق الحل، فلابد من ضمان حسن التطبيق، سواء باختيار البيئة الملائمة لتطبيقه أو باختيار الجهاز الحكومي والموظفين الحكوميين الملائمين لتنفيذ بطريقة تتناسب والمقصود من التشريع.
- على السلطات الحكومية الانتباه دائما إلى الطبقات الأكثر تضررا (الشرائح المضحية) ولا تكتفي بتشريع القوانين والأنظمة والقرارات، بل عليها أن تتأكد من تطبيقها وحصول المضحين من المواطنين على حقوقهم كافة، وإلا فان الشعور والإحساس بالظلم سيكون مضاعفا.
- على السلطات الحكومية أن تدرس مجددا الشكاوى والتظلمات والطلبات التي تقدمها الشرائح الاجتماعية المتضررة، وتراجع قوانينها وقراراتها، لتتعرف على الآثار السلبية التي خلفتها القوانين والقرارات أو تطبيقاتها. فهذا جزء لا يتجزأ من علمية التشريع.
وخلاصة القول، أنه من الضروري الجمع بين سنّ القوانين وتفعيل منظومة القيم الأخلاقية والقيم التربوية على أرض الواقع، وفهم أسباب المشكلات الاجتماعية من جذورها، قبل كل شيء من أجل اكتمال المعادلة، وأن نتأكد دائما وباستمرار أن القانون وضع لخدمة المواطن وليس لإيذائه.