حق الحصول على المعلومة ونقلها وتداولها أمر مباح وهو بالوقت عينه متاح للجميع حسبما أكدت ذلك الدساتير الوطنية والاعلانات والمواثيق الدولية، فعلى سبيل المثال، ورد في دستور جمهورية العراق لعام 2005 نص المادة (38) التي ألزمت الدولة بكفالة حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل، وحرية الصحافة والطباعة والاعلان والاعلام والنشر.كما ورد في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 نص المادة (19) وهي الاخرى حرصت على ضمان حق كل الأفراد في اتخاذ الآراء دون تدخل وحرية التعبير بما في ذلك البحث عن المعلومات أو الافكار من أي نوع واستلامها ونقلها بغض النظر عن الحدود اما شفاها أو كتابة، والعالم يعيش اليوم في ظل تطور علمي وتكنولوجي كبير في جميع الميادين لاسيما الاتصالات السلكية واللاسلكية والتواصل عبر الاقمار الاصطناعية باستخدام شبكات الانترنيت والبث التلفزيوني ما جعل العالم كقرية صغيرة وأضحت المعلومات تصل للمتلقي بغضون ثواني معدودة.بيد ان حرية تداول المعلومات قد يصطدم بعقبة الأمن الوطني أو القومي كما يعرف أحياناً والأخير يعرف بانه مصلحة البلاد العليا ممثلة في حماية الوطن ضد جميع المخاطر الأمنية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية والاليكترونية بل وحتى الأيدلوجية خارجياً كان مصدرها ام داخلياً.ولعل الهدف من الأمن الوطني هو الحفاظ على سلامة الدولة ووحدة أراضيها واستقرارها وتطبيق قوانينها، كما ينصرف أحياناً إلى المحافظة على أعرافها وقيمها الأخلاقية التي تتصل بحياة الأفراد ومعتقداتهم، والأمن الوطني مفهوم نسبي يتباين من دولة لأخرى ومن وقت لآخر فما يعد أمناً وطنياً في العراق قد لا يعد كذلك في الولايات المتحدة الامريكية، وفي معرض مسعى الدول لصيانة الأمن الوطني فأنها تنشأ قوات أمنية مسلحة وأجهزة استخبارية تختص بتقدير المخاطر وتقييمها واقتراح الحلول للقضاء عليها.بعبارة أخرى تسعى الدول وبأساليب شتى إلى الحفاظ على جبهتها الداخلية مستقرة، لهذا تتباين الحلول بين الدول فالتي تعتنق المذهب الديمقراطي تسعى إلى الحفاظ على الحقوق والحريات الفردية وهو الأمر الذي يتحقق باعتماد الأساليب السلمية لتداول السلطة الأمر الذي يشعر أفراد الشعب بالرضا عن السلطة العامة ويعزز ويرسخ روح الانتماء والمواطنة والإخلاص للوطن وتضافر جهود الجميع لدفع المخاطر عنه بشكل ذاتي وتطوعي، بينما تتفنن الأنظمة الدكتاتورية في الاعتماد على الأجهزة المخابراتية والاستخبارية والأمنية ذات النهج القمعي لتعزيز أمنها وديمومة نظامها فتغيب الحقوق والحريات ويضعف إلى حد كبير الحس الوطني.ومن الثابت ان الصحفي يومياً يتعامل مع كم كبير من المعلومات والبيانات التي ولاشك أن بعضها يتصل بأمن الدولة، وقيامه بواجبه المهني يقتضي أن يوصلها إلى المتلقي بالشكل الأمثل ما يحقق المقاصد من مهنة الصحافة وفق الأسس المهنية والموضوعية، وبهذا تبرز إشكالية الموازنة بين متطلبات الأمن الوطني وحرية الصحفي في الحصول على المعلومة، فالدول جميعاً تحرص على أن تبقى بعض الاشياء طيّ الكتمان لتحرم الدول الأجنبية وبخاصة المعادية لها من الحصول على معلومات عنها وتمنع أجهزة وأدوات تلك الدول من التلاعب بمقومات الدولة، عبر الاعلام الموجه بما يؤثر على استقرار الدولة والحالة المعنوية للقوات المسلحة والشعب في أوقات السلم والحرب.ويبرز في أداء هذه المهمة دور جهاز المخابرات الوطني الذي يتصدى لذلك عبر جمع المعلومات عن التهديدات أي كان مصدرها وهو ما أشار إليه دستور جمهورية العراق لعام 2005 في المادة (9/د) يقوم جهاز المخابرات الوطني العراقي بجمع المعلومات وتقييم التهديدات الموجهة للأمن الوطني وتقديم المشورة للحكومة العراقية، ويكون تحت السيطرة المدنية ويخضع لرقابة السلطة التشريعية، ويعمل وفقاً للقانون، وبموجب مبادئ حقوق الانسان المعترف بها.ومن المؤكد أن جهاز المخابرات العراقي سيسعى إلى فحص المحتوى الإعلامي الذي تقدمه وسائل الإعلام في العراق ويراقب ماتنشره المواقع الاليكترونية ويحلل ما يرد بها من معلومات قد تهدد الأمن الوطني، بل سيمتد في نشاطه إلى ما تورده الصحافة الاجنبية، وفي خضم هذه التحديات نتساءل عن حرية الصحافة وحق الصحفي في تقصي الحقائق والوصول للمعلومة هل يتعارض مع عمل ونشاط الاجهزة الاستخبارية وهل يمكن تقيد هذه الحرية الصحفية؟.وللجواب عن ذلك نقول باستحالة ذلك، فالأصل بالعمل الصحفي إن العاملين في هذا المجال يقومون بجمع المعلومات وتحليلها وتصنيفها من ثم تسويقها إعلامياً بطرق فنية، والبعض من الصحفيين يعمل في مجال الصحافة الاستقصائية التي تتابع ملفات الفساد أو الخدمات أو العلاقات بين مؤسسات الدولة ومن هذا المنطلق سيحصل على معلومات ربما تصنف بانها سرية فلا يمكن الزامة بالكشف عن مصادرها ولا يمكن مساءلته عن نشرها بل لابد من منح هؤلاء ضمانات وامتيازات تمكنهم من الحصول على مبتغاهم من تصريحات لمسؤولين ووثائق بيسر وسهولة لكونهم مرآة الرأي العام وضمير الامة النابض بالحياة.وتدعم وجهة نظرنا المتقدمة عدة حجج منها:1- ماورد بالمادة (38) من الدستور من اعتبار الصحافة إحدى أهم الحريات للشعب العراقي.2- ما ورد بالمادة (2) من الدستور العراقي من حظر سن أي قانون يتعارض مع الحقوق والحريات المقرة في الباب الثاني من الدستور ومنها حرية الصحافة وحق تتبع المعلومات.3- ما ورد بالمادة (46) من الدستور العراقي في ان الحقوق والحريات يمكن ان تنظم بقانون بيد ان لا يمس التنظيم أصل الحق أو الحرية.4- ماورد في قانون حقوق الصحفيين رقم (21) لسنة 2011 في المادة (4) من التأكيد على حق الصحفي في الحصول على المعلومات والأنباء والبيانات وإعادة نشرها وله الحق الكامل في الاحتفاظ بسرية مصادر المعلومات.5- شكل مجلس القضاء الأعلى محكمة لنظر قضايا النشر والاعلام وهي من المحاكم المختصة بنوع معين من الدعاوى في محكمة استئناف الرصافة شعوراً بأهمية وجود قضاة متخصصين لمراعاة طبيعة عمل الصحفي وأهمية الدور الذي يقوم به.وعند وضع النصوص الدستورية مع بعضها البعض نستنتج ان الأصل هو حرية الصحافة وحق الصحفي في استقاء المعلومة وتحليلها ونشرها بطريقة فنية وباتباع قواعد مهنية معينة بوصف الأخير هو السلطة الرابعة التي تعمل على رقابة السلطات الثلاث، وهو المحرك الرئيس للرأي العام، والمعبر عن ضمير الأمة ورأي الشعب في القضايا المحورية المهمة، والصحافة لاسيما الاستقصائية تملك الباع الطويل في كشف الحقائق وفضح المستور من انحراف السلطة التشريعية أو التنفيذية عن مقاصدها وفساد أفرادها، ولها الأثر البالغ في تقويم اتجاهات السلطة التنفيذية والتشريعية بمناقشة الأعمال الصادرة عنها وتداعياتها الايجابية والسلبية ما يمكن المعنين أحياناً من اكتشاف الأخطاء ومراجعة الأعمال ورفع المظلومية عن المواطنين.إذ لا يستطيع أحد أن يدعي وجوب تقييد حرية الصحافة بحجة الحفاظ على الأمن الوطني كون الدستور وهو أسمى القوانين وأعلاها منزلة في المادة (38) عد عمل الصحافة واحداً من أهم الحريات للشعب العراقي وبخاصة العاملين في حقل الصحافة ولم يقيد ذلك إلا بالحفاظ على النظام والآداب العامة ما يعني تحريم استخدام حرية الصحافة للإخلال بالأمن العام وتعريض القيم الاخلاقية للمجتمع العراقي للانتهاك.في الوقت الذي وضعت فيه المادة (9/ د) من دستور جمهورية العراق قيود عدة على عمل جهاز المخابرات لضمان عدم الانعطاف به من حماية الدولة إلى تحقيق أغراض أخرى تتلخص بتقييد الحقوق والحريات الفردية بحجة الحفاظ على أمن الدولة، فقد اشترط المشرع الدستوري في الجهاز المذكور الاتي:1- ان تكون الاستخبارات تحت قيادة مدنية.2- الخضوع لرقابة مجلس النواب.3- العمل وفقاً للقانون.4- احترام حقوق الانسان المعترف بها.يتبين لنا أن حرية تلقي المعلومات من قبل الصحافة حق وليس مجرد حرية لكونه مصلحة اجتماعية عليا لتعلقه بالتعبير عن ارادة الجماهير ومتابعة المصالح العليا للشعب العراقي.ولهذا نرى ضرورة تعزيز دور الصحافة في العراق بوصفها إحدى أهم دعائم المجتمع المدني وعامل اساسي للوصول إلى نظام ديمقراطي ينعم فيه الجميع بالحرية والأمن وفتح آفاق الحوار المتمدن بين مكونات المجتمع كافة، كما إنها دعوة جادة للتفكر والنقد البناء لتصحيح الاخطاء، وبدورنا ندعو المؤسسات الاعلامية كافة إلى تبني مشروع ترسيخ ثقافة حقوق الانسان وتدعيم ضماناتها عبر البرامج الاعلامية المختلفة، ومن جانب اخر المشرع العراقي مدعو هو الآخر إلى إعادة النظر بقانون حقوق الصحفيين رقم (21) لسنة 2011 وتضمينه نصوص صريحة تلزم السلطتين التشريعية والتنفيذية بتزويد الصحافة بالمعلومات الوافية عن المسائل المهمة التي تتعلق بمصالح البلد كملفات الفساد، والعلاقة بين اقليم كردستان والحكومة الاتحادية، والحرب على الارهاب، وملف الطاقة وتصدير النفط والخدمات،..الخ، والزام الهيئات المستقلة كالبنك المركزي بالإفصاح عن نتائج التحقيق في جرائم غسيل الأموال وهيأة النزاهة ودورها في كشف ملفات الفساد لكبار مسؤولي الدولة الحاليين والسابقين وهو ما سيلقي بظلاله على مجمل مفاصل الدولة ويرسخ دعائم الحكم الرشيد في بلدنا العزيز.
اشترك معنا على التلجرام لاخر التحديثات
https://www.telegram.me/
https://www.telegram.me/
التعليقات