الانتخابات هي أن يدلي المواطن بصوته لاختيار أحد المرشحين لتمثليه في موقع من مواقع السلطة والقرار. والانتخابات إما أن تكون رئاسية، أو برلمانية، أو بلدية، أو استفتاء شعبياً، ولكل منها اختصاصات محددة سلفا، بحسب طبيعة النظام السياسي، فيما إذا كان نظاما رئاسيا أو برلمانيا.
وصارت الدول تعتمد فكرة الانتخابات كأساس من أساسات دستورها، وتشريعٍ من تشريعاتها القانونية، لتضمن تطبيق الفكر الديمقراطي الذي يدعو إلى اختيار الشخص المناسب في المكان المناسب، بناءً على رأي أفراد الشعب، أو المجلس النيابي، أو الهيئة المختصة بذلك، وهذا ما أدى إلى اعتبار الانتخابات حقاً من حقوق الناس، وواجباً عليهم تطبيقه لضمان تفعيل دورهم الإيجابي في الحياة السياسية في مجتمعهم، ودولتهم.
والسؤال هنا ما هو موقف الإسلام من الانتخابات التي تجري اليوم في البلاد الإسلامية على قدم وساق؟ وهل يُجوز الإسلام للمسلمين أن يشتركوا في الانتخابات كناخبين أو مرشحين؟ وماهي الشروط التي يحددها الإسلام في كل من الناخب والمنُتخب؟ وماهي الوسائل الشرعية التي لو اعتمدت صحت الانتخابات، ولو تخلفت فسدت الانتخابات وفقدت شرعيتها؟
لم يتفق فقهاء الإسلام على الانتخابات؛ فهناك من ذهب إلى عدم جواز الانتخابات؛ لأنها خرجت من رحم الديمقراطية المخالفة للإسلام فحرمها، وهناك من ذهب إلى جواز الانتخابات، لان الإسلام لم يحدد طريقة معينة لاختيار القادة والحكام، ولأنها الطريقة التي تضمن للناس اختيار الأفضل والأكفأ والأحسن والأجدر.
ووفقا للرأي الثاني، وهو الرأي الأقرب لروح الإسلام ومثله القائمة على حرية الرأي وحسن الاختيار، وهو الأكثر واقعية من سواه، تحظى الانتخابات من منظور إسلامي بأهمية كبيرة، وذلك لكونها تمثل وسيلة فعالة من وسائل إدارة الأمة بالطرق السلمية المقبولة عرفا وشرعا.
يرى المرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي، أن الانتخابات ركيزة مهمة في الحكم الإسلامي: سواء كان على مستوى رئاسة الدولة، أو على مستوى نواب الأمة، أو على مستوى حكام الأقاليم والنواحي، ويوجب أن تكون هذه الانتخابات انتخابات حرة نزيهة غير مزيفة، كما يحصل في كثير من بلدان العالم، وإن وسيلة الاقتراع بين كل فترة وأخرى لانتخاب الحاكم العام والحكام المحليين -حسب رأي الأكثرية-هي الوسيلة الفضلى.
هنا يذكر الإمام محمد الشيرازي عدة أدلة عقلية ونقلية على أهمية إجراء الانتخابات، ومن أهم تلك الادلة هي:
1. إن الشارع المقدس لم يعين شخصاً بعينه لإدارة الحكومة، استناداً على الأصل القائل بأن الناس أحرار في انتخاب أية حكومة يشاءون، وهذا الأصل يتطابق وأصل الحرية الممنوحة للمسلمين، وبموجبه كانت إحدى مهام النبي (ص): (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) وعليه، فالمسلمون أحرار في انتخاب مرجع التقليد والقاضي وإمام الجماعة، وهكذا في انتخاب الحاكم، إذْ يمكنهم أن ينتخبوا أي شخص يشاءون لتولي هذا المنصب.
2. إن إدارة أمور الدولة تستلزم منصب الحاكم، ومن جهة أخرى فإن عدم وجود الحكومة يبعث على إخلال النظام وإثارة الفوضى، وهو من أكبر المحرمات. ولأنه لم تحدد طريقة خاصة لتعيين الحكام، فلابد من الشورى، وإجراء الانتخابات العامة، كأفضل طريق لانتخاب وتعيين الحاكم.
3. إن التصرف في شؤون وأمور الأمة، هو من حق الأمة فقط، ولا يستطيع الآخرون أن يتصرفوا في شؤونها إلا بتوكيل ورضى منها؛ حيث تحفظ الحرية الممنوحة للأمة من الانتهاك، ويُضمن شرط الفقاهة والعدالة في الحاكم.
4. يقول الإمام علي (ع) في رسالته التي بعثها إلى معاوية، بعد أن أكد على انتخابه من قبل الناس في بيعة عامة ورأي الشورى: (... بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماما كان ذلك لله رضى...)
5. أكد الإمام الحسن "ع" في رسالة بعثها إلى معاوية، قبل اندلاع الحرب بينهما، على أن حكومته تستند إلى رأي الأمة وانتخابها. ومفهوم هذه الرسالة أن للأمة حق انتخاب الحاكم؛ فهو -إذاً- يستمد شرعيته من انتخابهم له.
وتؤكد مدرسة الإمام الشيرازي، أن الأمة لكي تتخلص من الدكتاتورية والاستبدادية، عليها أن تختار وتنتخب قياداتها -على الأقل -في أهم مستوياتها، وهي:
الأول: انتخابات السلطة العليا من الفقهاء الذين هم مراجع الأمة (حقيقة لا صورياً أو مجازيا) فيكون لهم مجلس الشورى.
الثاني: انتخاب رئيس الدولة، مما يصطلح عليه في الزمن الحاضر بـ (رئيس الجمهورية).
الثالث: انتخاب (مجلس الأمة) لنواب الأمة في انتخابات حرة.
في الواقع، أن الانتخابات عند الشيرازي لا تقتصر على اختيار قيادة السلطة، وحسب، بل، تتعداها إلى كل إدارة شؤون البلاد السياسية والاقتصادية والتعليمية والإدارية...وقد أكد هذا المعنى الإمام الشيرازي بقوله: (يجب أن يكون الحاكم. منتخبا بانتخابات حرة، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام "أن يختاروا" وهذا هو المتعارف عليه الآن في البلاد الديمقراطية، ولذا نرى لزوم إجراء الانتخابات في إدارة كل شيء حتى في معمل أو شركة صغيرة أو ما شابه ذلك، فانه يشمله قوله سبحانه "وأمرهم شورى بينهم"، لان الشورى إنما هي نتيجة الانتخابات، أو أن الانتخابات هي نتيجتها).
ومما يتفرد به الإمام الشيرازي دون غيره من علماء الإسلام أنه لم يقصر حق الانتخاب على الرجل دون المرأة كما ذهب بعضهم، أو على البالغ دون غير البالغ، أو على العاقل دون غير العاقل، كما هو متعارف عليه اليوم في جميع الدول الديمقراطية. بل أوجب أن تشترك المرأة في الانتخابات كما يشترك الرجل فيه، فحقها يتساوى مع حق الرجل تماما. وأن لغير البالغ ولغير العاقل أن يشتركا في الانتخابات؛ لان الانتخابات تمسهما وتؤثر على حقوقهما، ولأن غير البالغ أو غير العاقل يتعذر عليهما أن يباشرا الانتخابات بأنفسهما فان لأوليائهما-على سبيل المثال -أن ينتخبوا بالنيابة عنهما، لأنهم أعرف بمصالحهما.
حيث يقول: (ثم إنه لا شك في أن كل بالغ عاقل له حق انتخاب الرئيس، لإطلاق الأدلة، كما أن الظاهر لدي أنه يحق لغير البالغ والعاقل أن يكون له صوت بواسطة وليه لشمول إطلاقه... وحيث يتصرف الفقيه في شورى الفقهاء، ويتصرف مجلس الأمة في شؤون الصبيان أيضاً، فلوليهم حق التصويت بالولاية عنهم. مثلاً إذا كان أب أو ولي للأيتام تحت نفوذه خمسة من غير البالغين، فلهذا الأب أو الولي ستة أصوات، واحد له وخمسة للمولى عليهم وهكذا)
نخلص مما تقدم ما يأتي:
أ- إن الإسلام يرى أن التصرف في شؤون الأمة، هو من حق الأمة فقط، ولا يستطيع الآخرون أن يتصرفوا في شؤونها إلا بتوكيل ورضا منها؛ وعليه فان للناس أن يشتركوا بشكل مباشر وغير مباشر في إدارة شؤونهم وتحقيق مصالحهم، سواء بالانتخاب أو التصويت أو الموافقة أو الاعتراض أو المقاطعة.
ب- إن الناس في الإسلام أحرار في انتخاب أية حكومة يشاءون، ولا يجوز للحاكم أيا كان أن يتقلد منصب الحكومة دون رضا الناس وموافقتها، وكان هذا الأمر يتم في السابق عن طريق انتخاب أهل الحل والعقد وهو ما يعتبر صورة من صور الانتخابات العامة. لأنه لا مكان للسيف والوراثة في نظرية الحكم في الإسلام.
ت- إن الانتخابات وسيلة شرعية لإبداء الرأي بحرية وأمانة، وعملية شورية تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية، الغاية منها اختيار القيادات والمجالس الحكومية التي تتولى شؤون البلاد والمدن والقرى من حيث إدارتها ونظافتها، وصيانتها، وتنظيمها على أسس علمية وفنية، لتحقيق الاستقرار والنمو والتقدم.
ث- إن الواجب انتخاب الأفضل والأصلح وصاحب الكفاءة، والمسلم يسعى لأمور دينه ودنياه، ويؤديها بالشكل الصحيح الذي أراده الله عز وجل، ويشهد بما يحبه الله ويرضاه باختيار الأكفاء؛ فإن عملية التصويت شهادة يسأل عنها المرء يوم القيامة، قال تعالى: (سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ) الزخرف/19. ولا يخفى أن ما يتم من تجاوزات داخل العملية الانتخابية من شراء للأصوات أو تزويرها محرم شرعا.
ج- من الضروري تنظيم وتعليم وتدريب الشباب على الانتخابات الحرة والمؤسسات الدستورية والتنافس الإيجابي ومختلف الحريات المشروعة، فإن الإنسان إذا لم تتوفر له مناخات الحرية، لن يبدع ولن يتقدم فلا تظهر ولا تنمو كفاءاته.
ح- أن يكون للفرد الحق في تمثيل مصالحه حتى بعد نجاح المرشحين في الانتخابات، لأن المرشح الفائز في الانتخابات، يعتبر ممثلاً ووكيلاً للشخص الذي انتخب لذا لابد له أن يتواصل معه حتى تصبح شرعيته مستمرة، لذلك فإن الذين يستغلون الناس للوصول إلى السلطة يفقدون شرعيتهم عندما يتخلون عن تمثيلهم للمواطن الذي انتخبهم.