بيانات

حقوق السجين بين الشريعة والقانون قراءة في فكر الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي

ينظر الدين الإسلامي الحنيف للناس على إن لهم حقوقاً وحريات لصيقة بصفتهم الإنسانية لا يمكن تجريدهم منها ولأي سبب كان ومنها أخذ الدين والشريعة المحمدية بمجامع قلوب الناس، إذ إن من ثوابت أحكام الإسلام أن كرامة الإنسان لا تنتهك في كل الظروف وحقوقه الأساسية لا تنتقص إلا عند الضرورة الملحة في بعض الأحيان، منها إذا ارتكب جرماً بالاعتداء على حقوق الله أو حقوق العباد ما يجعل منه محاسباً من قبل الحاكم الشرعي تمهيداً لفرض إحدى العقوبات الشرعية بحقه.

والملاحظ إن الأخيرة لا تخرج عن ثلاثة صور هي الحدود كحد السرقة والزنا وشرب الخمر أو ما شاكل ذلك، قال تعالى في سورة المائدة (الاية38) "وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا" أو القصاص ومن تطبيقاته القتل والاعتداء على الأعضاء البشرية قال تعالى في سورة البقرة (الاية178) "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ" أو التعازير التي تعد عقوبة غير محددة من قبل الشارع المقدس ويترك أمر تحديد مقدارها للحاكم الشرعي الجامع للشرائط، ومن أمثلتها الغش في التجارة قال تعالى في سورة النساء (الآية 59) "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ".

وعقوبة الحبس أو السجن تنصب على تقييد حرية الإنسان في الحركة والتصرف لارتكابه فعلاً مخالفاً لمقاصد الشرع أو القانون يوقعه من يملك السلطة في ذلك لاعتدائه على المصالح العليا للمجتمع أو أن يشكل فعله تهديد لها، ويعد السجن تطبيقاً للتعازير الشرعية وفق الشريعة الإسلامية.

أما القوانين المطبقة في البلدان العربية والإسلامية في الوقت الراهن فهي تعتمد بشكل كبير على عقوبات بدنية رادعة منها السجن الوارد بالمادة (85) من قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969، ومن الألفاظ التي تظهر بشكل إجراء قانوني أو احترازي إلا أنها توازي السجن في سلب أو تقييد الحرية (الحبس، التوقيف، الحجز، التقييد، الاقامة الجبرية، الاعتقال)، والواقع إن عقوبة السجن تعد من العقوبات القديمة التي رافقت مسيرة الإنسانية فالقرآن الحكيم يحدثنا في سورة يوسف (الاية33) عن إن عقوبة السجن كانت معروفة في مصر القديمة "قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ"، إلا أن الواضح إن هذه العقوبة يساء استخدامها في العديد من الحالات وتتحول إلى أداة للتنكيل بالناس وتفقد الغاية منها وهي الإصلاح.

من هذه الإشكالية انطلق المرجع الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي ليضع بين أيدي المختصين رؤية الدين الإسلامي للسجين في كتابه "كيف ينظر الإسلام إلى السجين"، إذ قدم الرسول الأكرم صلى الله عليه واله المثال الذي يحتذى به في التعامل الإنساني مع الجميع ومنهم السجين، رغم إن عقوبة السجن لم تتبلور في عهد النبي ص إنما ظهرت في عهد الخلافة، وقد حاول الإمام الشيرازي أن يرسي مبادئ سامية محددة استقاها من نهج السنة النبوية والعترة الطاهرة تظهر الرحمة التي جاء بها الإسلام والتي تتباين مع ما سار عليه التشريع في العراق والعالم من قواعد عقابية تجرد الإنسان من كرامته وآدميته وتجعل منه ضحية للعدالة المزعومة والتي من شأنها ان تجعل من السجن وسيلة لإفساد الفرد لا لإصلاحه.

فالسجين إنسان له كرامته وحريته المقررة من قبل الله سبحانه وتعالى ما يلزم الاقتصار على السجن في اقل قدر ممكن فهو ضرورة وليس أصل والضرورة تقدر بقدرها، وهذا رؤية واقعية وتتفق مع روح الإسلام الأصيل والمبادئ الإنسانية التي قررتها المواثيق والمعاهدات الدولية والدساتير العراقية والدولية، ومنها دستور جمهورية العراق لعام 2005 الذي أكد في المادة (15) إن لكل فرد الحق في الحياة والأمن والحرية وهو الأمر الذي أكدته المادة (1) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 حينما قررت أن يولد جميع الناس أحراراً ومتساويين في الكرامة والحقوق، والمادة (9) من العهد الدولي لحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 التي أوضحت إن لكل فرد الحق في الحرية وفي الأمان على شخصه ولا يجوز اعتقال أحد أو توقيفه تعسفاً.

كما يؤكد الإمام الشيرازي على قدرة السجين على إجراء المعاملات كالبيع والشراء والرهن وإبرام عقد النكاح لنفسه أو لغيره ممن هو ولي عليهم، فالسجين قبل كل شيء إنسان ارتكب جرم عن خطأ أو عن عمد إلا انه إذا أظهر الندم فلا يصار إلى حرمانه من حقوقه المدنية وإلا فسيتجرد من إنسانيته وهذا الخطأ الذي وقع به المشرع العراقي في قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 المعدل بالمادة (96) عندما قرر بان الحكم بالسجن المؤبد أو المؤقت يستتبعه بحكم القانون من يوم صدوره إلى حين إخلاء سبيل المحكوم عليه حرمانه من الحقوق والمزايا الآتية (الوظائف التي يؤديها، أن يكون ناخباً أو منتخباً، أن يكون وصياً أو قيماً أو وكيلاً).

وأفردت المادة (97) حكماً خاصاً مقتضاه حرمان المحكوم عليه بالسجن من إدارة أمواله أو التصرف بها بغير الوصية والوقف، وهذا الأمر يعد عقوبة تبعية تستتبع الحكم على السجين بحكم القانون حتى لو لم ينطق به القاضي ولا نجد مسوغاً للتعميم على جميع المحكوم عليهم، إذ إن الدستور العراقي والمواثيق الدولية كلها تكفل للجميع بلا استثناء هذه الحقوق وتحوطها بحماية فلا يمكن التجاوز عليها إلا وفق إجراءات قانونية سليمة فمن الثابت وفق الدستور إن للمواطنين رجالاً ونساءً حق المشاركة في الشؤون العامة والتمتع بالحقوق السياسية بما فيها حق التصويت والانتخاب والترشح، وهو الأمر الذي أكده الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأن للرجل والمرأة متى أدركا سن البلوغ حق التزوج وتأسيس أسرة وبالتالي الحكم على أحد الأشخاص ليس مسوغاً لوحده للحرمان بل لابد من التزام مبدأ التفريد العقابي بان لا يتم تطبيق العقوبات على جميع المحكوم عليهم بشكل آلي بل وفق دراسة حالة وظروف كل شخص على حدة، وإيقاع العقوبات التي تلائم حالته بما يكفل إصلاحه وإعادته للمجتمع إنساناً سوياً.

وللسجين ممارسته الحق في التعلم والكتابة ومطالعة الكتب العلمية وغيرها، لما لها من دور في صقل شخصية الإنسان ورفع مستواه الثقافي وطلب العلم قبل كل شيء فضيلة وأحيانا يتحول إلى واجب كفائي لقوله تعالى في سورة التوبة (الاية122)" فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ"، وهو حق أصيل أكدته الدساتير الوطنية ومنها دستور جمهورية العراق لعام 2005 بالمادة(34) التي بينت إن التعليم عامل أساس لتقدم المجتمع وحق تكفله الدولة وهو ما أكدته جل المواثيق الدولية والمعاهدات المتعلقة بحقوق الإنسان ومنها العهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية لعام 1966 بالمادة (16) بان تتعهد الدول الأطراف في هذا العهد باحترام الحرية التي لا غنى عنها في البحث العلمي والنشاط الإبداعي، ويذكر إن المشرع العراقي ترجم هذه المبادئ في المادة(23) من قانون إصلاح النزلاء والمودعين رقم (104) لسنة 1981 المعدل بان للنزيل أو المودع حق في التعلم ومواصلة الدراسة خلال مدة محكوميته.

ويؤكد الإمام الشيرازي في هذا المجال، بان من أهم حقوق السجين ممارسته لإحدى المهن أو الأعمال للتكسب منها وحريته في أداء التمارين الرياضية والهوايات الشخصية، ولعل الهدف من وراء هذا التأكيد على هوية الإنسان الخاصة وذاته التي يجب أن تحترم وقد نظم المشرع العراقي بعض من هذه المبادئ في قانون إصلاح النزلاء والمودعين رقم (104) في المادة (18) لكل نزيل أو مودع الحق في العمل في حدود قدرته ومؤهلاته بقصد تأهيله وتدريبه مهنياً وتهيأت أسباب العيش له بعد انقضاء محكوميته ومساعدته على الاندماج في المجتمع وصيرورته مواطناً صالحاً، وقد صدرت تعليمات عدد (4) لسنة 2015 لتنظم أجور عمل النزلاء داخل أقسام الإصلاح الاجتماعي، كما وان السجين طيلة مدة محكوميته لا ينقطع عن أسرته وله الحق في زيارتهم أو أن يزوروه وفق أسس تنظيمية معينة وهذه الرؤية الإسلامية وجدت بعض التطبيق في قانون إصلاح النزلاء والمودعين بالمادة (28) والتي سمحت باستقبال السجين لزائريه وفق ضوابط تضعها إدارة السجن كما تضمنت المادة (29) أمراً ايجابياً بزيادة عدد الزيارات العائلية لمن يثبت من السجناء تفوقه في عمله أو دراسته أو أبدى سلوكاً متميزاً، وأشارت المادة (35) إلى إمكانية منح النزيل أو السجين العراقي إجازة منزلية لا تزيد على خمسة أيام كل ثلاثة اشهر وفق ضوابط وشروط وان كانت معينة إلا أنها ضوابط أقل ما يقال عنها إنها صارمة إذ اشترطت انقضاء أكثر من ربع محكومية السجين وتضمن التعديل الثاني للقانون في عام 2002 إضافة جديدة بمنح مدير السجن إمكانية منح إجازة إضافية للسجين المبدع بشكل سنوي.

ويؤكد مؤلف الكتاب-الإمام الشيرازي- ضرورة فصل السجناء بعضهم عن بعض خشية الفتنة كفصل الصبيان (غير البالغين) عن نظرائهم من الناس البالغين وفصل النساء عن الرجال، ورعاية السجين من حيث توفير المأكل والملبس والرعاية الصحية تيمناً بالسنة التي وضعها الإمام علي عليه السلام بعد أن ضربه ابن ملجم المرادي إذ قال لابنه الحسن بني أطعمه من طعامك واسقه من شرابك وأحسن أساره، وهذه الملاحظة الدقيقة تحتاج من المشرع العراقي ومن القائمين على السجون رعايتها بكل دقة ويشار إلى إن قانون رعاية النزلاء والمودعين العراقي رقم (104) أشار إلى بعض هذه المصاديق في المواد (32-42) غير أنها لا تزال تحتاج إلى سبل تفعيل حقيقة وإعادة نظر وفق نظرة مستقبلية تؤمن إصلاح السجين خارج أسوار السجن، ويتحتم على القائمين على إدارة السجن احترام إنسانية السجناء وعدم تعذيبهم بدعوى التأديب أو السماح للبعض منهم أن يعتدي على الآخرين إنما على الشرطة أو الحرس التعامل مع السجين كما لو كان خارج أسوار السجن بما يحفظ له كرامته وآدميته.

ونجد إن الإمام الشيرازي أكد في مؤلفه على احترام حرية الإنسان وجعلها هي الأساس وهذا الأمر يكشف عن نظرة علمية وعصرية فمن الثابت أن المختصين في علم الاجتماع والقانون الجنائي يؤكدون إن السياسة الجنائية الحديثة تنطلق من فكرة التقليل من الاعتماد على السجن أو الحبس والانطلاق نحو بدائل لهذه العقوبة القاسية التي تجرد الفرد من إنسانيته في كثير من الأحيان بل في الغالب تكون سبباً في فساد الشخص بدل إصلاحه لابتعاده عن أسرته ووسطه الاجتماعي وما ستعانيه أسرته من تفكك بسبب غياب السجين الذي هو في الوقت عينه أب أو زوج أو أخ أو أم، وانقطاع لمصدر من مصادر دخل العائلة وينتج عن ذلك مخاطر أخرى إذ يضطر ذويه إلى العمل والتكسب وترك الدراسة أو المنزل بشكل مبكر، كما إن اختلاط السجين ببعض المجرمين المتمرسين قد يسبب انحرافه نحو عالم الجريمة، فضلا عن غياب البرامج التربوية والتأهيلية والإصلاحية الحقيقية التي من شأنها إصلاح السجين بسبب تكدس أعداد السجناء ما ينعكس سلباً على حياته بعد الإفراج عنه.

مما تقدم نجد إن الواجب يحتم على الجميع من حكومة ومؤسسات مجتمع مدني ومنظمات حقوقية عالمية أو إقليمية أن يضعوا الأفكار التي انتهى إليها المرجع الشيرازي الراحل موضع التطبيق العملي عبر برامج تربوية وتأهيلية متكاملة والاعتماد على أحدث ما توصلت إليه الدراسات الاجتماعية والقانونية المتخصصة ببدائل عقوبة السجن كما ولابد من ترجمة الأفكار والمبادئ التي طرحها كتاب "كيف ينظر الإسلام إلى السجين" إلى قواعد قانونية ملزمة للجميع لاسيما لإدارة السجن التي هي باحتكاك يومي مع السجناء.

اشترك معنا على التلجرام لاخر التحديثات
https://www.telegram.me/
التعليقات