مقالات

الموازنة بين الحقوق والواجبات

 

   فكرة الحق والواجب من الأفكار القانونية المتلازمة فالقانون حين ينظم مركزاً قانونياً معيناً بالضرورة هو يشير إلى إنشاء حقوق وواجبات تمثل مضمون هذا المركز وبإلقاء نظرة فاحصة عليهما يتضح لنا جلياً ان كلاهما يعد التزام متقابل يقع على الطرف الأخر، ولذا تضمنت الوثائق الدستورية أو اللوائح الدولية نصوصاً واضحة بمضمون ما تقدم، إذ تشتمل على جملة من الواجبات تقع على الفرد والسلطات العامة الغاية منها تمكين الطرفين من الحياة بعيداً عن التدخل التعسفي بالشؤون الخاصة أو بما يعرض المصالح لاسيما العامة إلى خطر الانتهاك، لذا دأبت التشريعات على تسمية فصل في الدساتير أو الإعلانات والمواثيق باسم ((الحقوق والحريات والواجبات)) فهي تنظم الواجبات لأهميتها ومحورتيها بالنسبة لحياة الدولة والفرد حيث تلعب دورا بارزا في تمكين الجميع من التمتع بالحقوق والحريات وتمنع أي تعدي على الطرف الأخر.

ان التطور في مجال حقوق الإنسان في المجتمع يرتبط بتطور التشريعات، إذ لا يمكن الفصل بين الحق والواجب، فعلى سبيل المثال ان واجب المحافظة على الأموال العامة من شأنه ان يضمن الحقوق والحريات للآخرين كحق الحصول على الضمان الصحي والاجتماعي، والقاعدة القانونية حينما تقرر حقا لأحد الأفراد فإنها في ذات الوقت تضع التزاما إما على عاتق الأفراد الآخرين أو على عاتق الدولة أو كلاهما.

 والحقوق والحريات في الأعم الأغلب بحاجة إلى ضمانات حقيقية لحمايتها ولعل هذه الضمانات هي واجبات تقع على كاهل الجهات المذكورة أخص منها بالذكر الجهات الرسمية، حيث نظم الدستور العراقي الحق في الحرية ولضمانها أقر جملة من الواجبات تقع على كاهل السلطة العامة، ومنها "التقاضي حق مصون ومكفول للجميع، حق الدفاع مقدس ومكفول في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة، المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، لكل فرد الحق في أن يعامل معاملة عادلة في الإجراءات القضائية والإدارية، جلسات المحاكم علنية إلا إذا قررت المحكمة جعلها سرية، العقوبة شخصية، يحظر الحجز، لا يجوز الحبس أو التوقيف في غير الأماكن المخصصة لذلك وفقا لقوانين السجون المشمولة بالرعاية الصحية والاجتماعية والخاضعة لسلطات الدولة".

لما تقدم يمكننا ان نعرف الواجب بالإشارة لما ورد في القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951 في المادة 109 بان الواجب "سلوك يحتمه القانون تحقيقا لمصلحة اجتماعية "وهنالك ارتباط وثيق بين التنظيم القانوني للحقوق والحريات والواجبات من جهة وبين حياة المجتمع من جهة أخرى فالإنسان لا يمكن ان يعيش إلا في مجتمع والأخير لا يمكن ان يقوم إلا على أساس النظام العام ما يعني وجود القواعد القانونية الأمرة وملزمة وهذا الإلزام يعني وبلا شك وضع التزامات وواجبات على أطراف لابد ان ترعاها وتنفذها وإلا فلا مكان للقول بوجود الحقوق والحريات.

 واستكمالا لما بيناه في أعلاه نقول ان الدول وسلطاتها التشريعية والتنفيذية والقضائية لا تتحمل لوحدها مسؤولية ضمان الإقرار بحقوق والحريات وضمان هذه الحقوق الحريات بل لابد من الاعتراف بوجود الواجبات على عاتق الدولة من جهة وسلطاتها العامة والأفراد من جهة أخرى، والتي تنقسم إلى نوعين أحدهما قانوني والآخر التزام أدبي، فمن الثابت في كل النصوص والمواثيق المتعلقة بحقوق الإنسان ان مسؤولية حماية الحق والحرية تقع على عاتق السلطة العامة في الدولة ويمكنها ان تقيد هذه الحقوق والحريات في ضوء متطلبات النظام العام والآداب العامة، وبالتالي حينما تقر هذه القوانين واجبات معينة فيكون أساسها قانونيا مقرراً بمقتضى النصوص سواء كانت ذات طابع أو أصل دولي أو ذا طابع أو أصل وطني وليس الأمر عند هذا الحد فحسب بل هناك كثير من الواجبات ذات أصل أخلاقي مشتقة من واجب الإنسان في التضامن مع أخيه الإنسان وضرورة احترام كرامته الإنسانية وعدم الاعتداء عليها أو الحد منها لأي سبب كان.

ولقد اهتم الفقه بالواجبات وبيان تقسيمها وأساسها القانوني ولابد من القول ان ما تقدم لم يكن ببعيد عن الصراع الأبدي بين السلطة والحرية فالسلطة تريد ان تعظم من الالتزامات والحرية تسعى إليها الشعوب للتعبير عن ذاتها وكيانها الإنساني والحضاري، ويأتي هنا دور النص الدستوري لكي يوجد الموازنة ما بين مقتضيات السلطة العامة الموكول إليها مسألة تحقيق المصلحة العامة وما بين الحقوق والحريات، وما تقتضي من اعتراف لها بالريادة عند تشريع أي نص قانوني سواء على مستوى التشريعات التي تصدر عن البرلمان أو التي تصدر عن الهيئات المحلية أو اللامركزية أو المرفقية منها.

 كما يلعب القضاء دوراً محوريا في تحديد الالتزامات وتعيين نطاق هذه الالتزامات حينما ينظر في المنازعات التي تشجر ما بين الدولة والأفراد أو ما بين الأفراد بعضهم مع البعض الأخر، فالقضاء مؤتمن على التطبيق السليم لأحكام القانون والحصن الحصين للحقوق والحريات، ولذا أشار المشرع الدستوري إلى هذه الوظيفة القضائية وعدها ضمانة لما تقدم في المادة الثامنة والثمانون "القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في القضاء أو في شؤون العدالة"، بعبارة أخرى يفترض الحرص على استقلال السلطة القضائية عن السلطتين التشريعية والتنفيذية لضمان عدم وقوعها تحت تأثير تلك السلطات حينما تمارس دورها أو وظيفتها في حماية الحقوق والحريات.

ويمكن ان تنقسم واجبات الفرد إلى مستويات المستوى الأول هو واجبات الفرد تجاه المجتمع فهنالك مسؤولية اجتماعية تقع على عاتق الفرد إن لم تكن قانونية فهي أخلاقية تتمثل في قيام الفرد بواجبه كاملا إزاء المجتمع للحفاظ على تماسك المجتمع والأسرة، وفي هذا المجال نشير إلى ما ورد في المادة (29) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة العام 1948 التي جاء فيها "على كلِ فرد واجبات إزاء الجماعة، التي فيها وحدها يمكن أن تنمو شخصيته النمو الحر الكامل"، المستوى الثاني وهو المستوى الشخصي حيث ان الفرد حينما يمارس أعماله اليومية ويتمتع بحقوقه وحرياته لابد ان يرعى حقوق الآخرين والتي تمثل التزامات تقع عليه يفرضها النظام العام والآداب العامة ونعطٍ لما تقدم مثال بالمادة (17) من الدستور العراقي للعام 2005 التي تنص على "لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين والآداب العامة"، المستوى الثالث يبدو جلياً حينما ننظر إلى المستوى الجمعي المتمثل بالمنظمات سواء منها الدولية أو المحلية حقوقية أو غيرها والتي يكون جزء من واجبها هو المحافظة على النسيج الاجتماعي والقيم القانونية الراسخة في هذا المجال إذا شار العهد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية للعام 1966 في ديباجته إلى واجبات الأفراد حيال الآخرين أو حيال المجتمع "أن على الفرد، الذي تترتب عليه واجبات إزاء الأفراد الآخرين وإزاء الجماعة التي ينتمي إليها، مسؤولية السعي إلى تعزيز ومراعاة الحقوق المعترف بها في هذا العهد"، كما أشار العهد الدولي إلى إمكانية وضع قيود على الأفراد حين ممارستهم لها من أجل المحافظة على النظام العام والآداب العامة، وأشارت اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 في المادة (18) أيضاً إلى هذا المفهوم وصدر عن الأمم المتحدة الإعلان المتعلق بحقوق ومسؤولية الأفراد والجماعات وهيئات المجتمع في تعزيز حماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية المعترف بها عالميا لعام 1998 المتخذ بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بالقرار رقم (44/53) في 9/كانون الأول 1998 والذي تنص مادته الأولى إلى "من حق كل شخص، بمفرده وبالاشتراك مع غيره، أن يدعو ويسعى إلى حماية وإعمال حقوق الإنسان والحريات الأساسية على الصعيدين الوطني والدولي"

 

وأشار الدستور العراقي لعام 2005 كوثيقة دستورية مهمة إلى الواجبات التي يجب على الفرد ان يلتزم بها ففي المادة التاسعة ثانيا ضمن المبادئ الأساسية من الباب الأول أشار المشرع الدستوري إلى القوات المسلحة وإلى واجب أداء الخدمة العسكرية بتجرد وحياد "لا يجوز للقوات المسلحة العراقية وأفرادها، وبضمنهم العسكريون العاملون في وزارة الدفاع أو أية دوائر أو منظمات تابعة لها، الترشيح في انتخابات لإشغال مراكز سياسية، ولا يجوز لهم القيام بحملات انتخابية لصالح مرشحين فيها، ولا المشاركة في غير ذلك من الأعمال التي تمنعها أنظمة وزارة الدفاع، ويشمل عدم الجواز هذا أنشطة أولئك الأفراد المذكورين انفاً التي يقومون بها بصفتهم الشخصية أو الوظيفية دون ان يشمل ذلك حقهم بالتصويت في الانتخابات"، وأشارت المادة 18 إلى ضرورة أو واجب الولاء للوطن في العمل لذا حظرت على مزدوجي الجنسية تسنم منصبا أمنيا أو سياسيا رفيعا، كذلك أشارت المادة (27) إلى واجب الأفراد في احترام حرمة المال العام إذ تنص على "للأموال العامة حرمة، وحمايتها واجب على كل مواطن"، وأشارت المادة (28) إلى واجب دفع الضرائب بوصفها أحد الأعباء العامة، وأشار المشرع الدستوري إلى واجب الآباء والأبناء بوصفة من الواجبات المتبادلة بين الطرفين في المادة (29) التي تنص على "للأولاد حقٌ على والديهم في التربية والرعاية والتعليم، وللوالدين حق على أولادهم في الاحترام والرعاية، ولاسيما في حالات العوز والعجز والشيخوخة".

 

http://ademrights.org

ademrights@gmail.com

https://twitter.com/ademrights

اشترك معنا على التلجرام لاخر التحديثات
https://www.telegram.me/
التعليقات