من اللافت للنظر أن الأعمال الخيرية عند المسلمين تزداد وتيرتها في شهر رمضان، ويدخر المسلمون المساعدات الإنسانية والمالية التي يجمعونها في الأشهر السابقة حتى قدوم هذه الشهر، فيقومون بتفريقها على المستحقين، مثل الفقراء والمساكين والمرضى؟ والسؤال هنا لماذا تكثر الأعمال الخيرية في شهر رمضان عند المسلمين؟ وماهي طبيعة تلك الأعمال التطوعية؟ وكيف يمكن استثمار شهر رمضان في بناء الإنسان روحيا وماديا؟
يمتاز شهر رمضان عن بقية الشهور عند المسلمين بأنه شهر نزول القران الكريم، يقول الله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، وشهر رمضان يضم من بين لياليه ليلة القدر، وهي خير من ألف شهر.قال الله تعالى: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) فالعبادةُ فيها أفضَلُ عند اللهِ مِن عبادة ألفِ شَهرٍ، ليس فيها ليلةُ القَدرِ. وشهر رمضان شهر كتب الله فيه على المسلمين صيامه، بمعنى الامتناع عن الطعام والشراب حتى الليل. قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
لذا.. فان من العبادات التي يمارسها المسلمون في هذا الشهر المبارك هي عبادة الأعمال الخيرية، والأعمال الخيرية قد تكون أموال يتبرع بها المسلم المتمكن لإعانة المسلم الذي لا يتمكن من الحصول على طعامه وشرابه، وقد تكون على شكل وجبات إفطار للصائمين عموما والصائمين من الفقراء والمساكين ممن لا يجدون طعاما.
وقد تكون على شكل مساعدات عينية كشراء الطعام والملبس والحاجات الشخصية التي يحتاجها الفقراء مثل توفير الغذاء أو اللباس أو الدواء، وأدوات التبريد أو التدفئة وغيرها. وقد تكون على شكل التطوع البدني للمساعدة في وصول الأموال أو الطعام أو اللباس إلى مستحقه. وقد تكون الأعمال الخيرية عبارة عن مؤتمرات وندوات وورش عمل تهدف إلى تنمية الأخلاق الحميدة، والتفقه في العلاقة بين الإنسان وربه، وبينه وبين أبناء مجتمعه.
والأعمال الخيرية التطوعية في شهر رمضان قد يؤديها المتطوعون بشكل فردي، اي أن كل إنسان يساعد الإنسان الآخر، سواء كان يخطط بنفسه للقيام بهذه الأعمال الخيرة، أو أنه مر بموقف رأى فيه أن هناك حاجة للتدخل بهدف تقديم خدمة للمحتاج، أو بشكل جماعي من خلال اتفاق بين شخصين أو أكثر على تقديم خدمة محددة لمحتاج أو لعدد من المحتاجين، أو بشكل مؤسسي أي الانضمام إلى مؤسسة خيرية تهدف إلى مساعدة الآخرين على المستوى الإنساني أو التعليمي أو الصحي أو الثقافي أو التنمية.
ولا تقتصر الأعمال الخيرية التي يقدمها المسلمون على الأفراد والجماعات المسلمة في البلد، بل قد تتعدى إلى بلدان وشعوب أخرى مسلمة أو غير مسلمة، عندما تكون هناك مشكلة اقتصادية أو أزمة سياسية، أو نشوب نزاع مسلح، مثل تقدم المساعدات الغذائية لضحايا الزلازل في تركيا وسوريا، ومثل تقديم المساعدات الغذائية والطبية للشعب الفلسطيني بسبب الحرب المفروضة عليه.
وهدف المسلمين من تقديم المساعدات الغذائية والإنسانية لغيرهم من المسلمين وغير مسلمين المحتاجين للمساعدة هو الحصول على رضا الله عز وجل، فهو هدف أسمى من بين الأهداف التي يبتغونها في هذا الشهر، فالله سبحانه وتعالى قد فرض على المسلمين القادرين ماليا وبدنيا وفكريا أن يساعدوا الآخرين، سواء كان ذلك في شهر رمضان أم في غيره، إلا أن الأعمال في شهر رمضان تتضاعف بالنظر إلى كونه من الأشهر التي ضاعف الله عز وجل أجر الممتثلين لطاعته. قال الإمام الصادق (عليه السلام): أيما مؤمن أطعم مؤمناً ليلةً من شهر رمضان، كتب الله له بذلك مثل أجر من أعتق ثلاثين نسمة ًمؤمنةً، وكان له بذلك عند الله عزّ وجلّ دعوة مستجابة.
وقد يكون الهدف هو إنساني، بمعنى شعور الإنسان المسلم بضرورة مساعدة الآخرين ممن يحتاجون إلى مساعدة بغض النظر عن هوية الشخص المحتاج، فالواجب الإنساني والأخلاقي يحتم علينا مساعدة كل من يطلب المساعدة أو كل من نعتقد أنه يحتاج إلى مساعدة. وقد يكون الهدف ذاتي بمعنى أن ذواتنا تشعر بالحاجة إلى مساعدة الآخرين، وأن رضا الإنسان عن نفسه يتحقق عندما يكون قادرا على تقديم خدمة ما لمن يحتاجها.
إلا أن دعوة الله عز وجل للمسلمين في شهر رمضان بان يصموا ويقدموا ما لديهم من أعمال البر والإحسان مقابل عطاء كبير لا يعد ولا يحصى من الأجر والغفران لابد أن ينظر له نظرة استراتيجية، بمعنى لابد أن تكون نتائج أعمالنا الدنيوية بمستوى المقابل الذي أعده الله عز وجل للصائمين والعاملين في هذا الشهر، أي لابد أن يترك كل عمل خير أثره المباشر على المحتاجين، وفي الوقت ذاته يترك أثره على المجتمع بشكل مستدام.
على سبيل المثال نقوم بدفع الأموال للفقراء والمحتاجين حتى يشتروا به طعاما، أو نقوم بتحضير الطعام للفقراء حتى يشبعوا هذا اليوم، أو نوفر الدواء للمرضى حتى يكفيهم هذا الشهر، أو نقيم ندوة أو ورشة ثقافية لمرة واحدة أو تتكرر في هذا الشهر لتعزيز القيم الأخلاقية والإنسانية.
بتعبير أخر، هل يمكن أن نحد من ظاهرة الفقر المادي في المجتمع على طول أشهر السنة والبداية من شهر رمضان؟ هل يمكن أن نحد من الأمراض والأمراض المزمنة على طول السنة والبداية من شهر رمضان؟ هل يمكن أن نحد من ظاهرة التخلف والأمية على طول السنة والبداية من شهر رمضان؟ هل يمكن أن نبني أسرة قوية ومتماسكة على طول السنة والبداية من رمضان؟
الجواب، نعم... وشهر رمضان هو أكثر الأشهر ملائمة للقيام بمثل هذه الأعمال الاستراتيجية، هو شهر مؤيد من الله عز وجل، وله خصوصية عن بقية الشهور، وهو شهر أيامه أفضل الأيام، ولياليه أفضل الليالي على المستوى الفكري والعقدي والنفسي والأخلاقي والإنساني، وهو شهر يصلح لبناء مجتمع متكامل فكريا ونفسيا واقتصاديا. فكل مشروع نهضوي في هذا الشهر سيحظى بالبركة والتأييد قطعا، وستكون نتائجه الدنيوية والأخروية مشجعة قطعا.
فماذا لو اجتمع نفر من الناس؛ وقالوا هدفنا في هذا الشهر أن نقلل عدد الفقراء في مناطقنا إلى النصف؟ وماذا لو اجتماع نفر من الناس؛ وقالوا هدفنا في هذا الشهر أن نقلل عدد المرضى في مناطقنا إلى النصف؟ وماذا لو اجتمع نفر من الناس؛ وقالوا هدفنا في هذا الشهر أن نقلل الأمية والجهل في مناطقنا إلى النصف؟ ووضعوا برامجا تمكنوهم من تحقيق تلك الأهداف، فان شهر رمضان القادم سيكون عدد الفقراء، وعدد المرضى، وعدد الأميين نصف ما كانوا عليه في شهر رمضان السابق.
فهل ذلك ممكن، نعم ممكن، ونحتاج إلى ما يأتي:
1- إرادة قوية ومؤمنة ومتوكلة على الله، تؤمن أن الله عندما أمرنا بالحد من الفقر والمرض والجهل، وأنه تعالى قد زودنا بالملاكات والطاقات والإمكانيات اللازمة لأجل ذلك، وأن يده ستكون مع يد الجماعة.
2- وضع خطة استراتيجية، تبنى على أساس بيانات ومعلومات اجتماعية صحيحة، تشمل نسبة الفقراء والمحتاجين والأميين، ونسبة المتمكنين والأثرياء والمختصين الذين سيساعدون في تنفيذ هذه الخطة. وتهدف إلى فتح معامل ومصانع لتشغيل الفقراء، ومراكز صحية لعلاج المرضى، ومراكز تربوية لإشاعة العلم والمعرفة
3- تهيئة إعلام هادف يدعم هذه الخطة، مهمته إشاعة ثقافة مساعدة الآخرين بطريقة غير تقليدية، مثل بناء المصانع والمستشفيات والمدارس التي تساعد على تلبية حاجات الفقراء والمرضى والأميين.
4- تأسيس شراكة بين المؤسسات المجتمعية والمؤسسات الحكومية، فالغايات والأهداف مشتركة، كما أن الأدوات والوسائل هي أيضا مقسمة بين الطرفين، ومثل هذه الشراكة تساعد كثيرا على نجاح خطة التنمية البشرية.
http://ademrights.org
ademrights@gmail.com
https://twitter.com/ademrights