تعد الانتخابات استحقاقاً إنسانيا وقانونياً وأخلاقياً ينبغي ان يكفل لجميع بني الإنسان لاجتثاث حالة الشعور بالمظلومية أو الدونية من النفوس ما يمهد الطريق إلى الأمن الاجتماعي والإنساني الشامل، لذا الأمن الانتخابي واحداً من أهم الاستحقاقات التي تتطلب الدراسة ويتم تسليط الضوء عليها، فالأمن عموماً هو الشعور الفردي والجماعي بالراحة النفسية والهدوء.
إذ للأمن معنى فردي واجتماعي حين يخلد المجتمع إلى الراحة من النزاعات ويغدو خاليا من العوامل التي تتهدد أسسه ومكوناته البشرية والمادية، ولذا اعتبر الإسلام الأمن من الضروريات التي لابد من المحافظة عليها ليطمأن الفرد على حاضره ومستقبله في نفسه أو ماله أو من يهمه شأنهم كأفراد أسرته وأبناء مجتمعه يقول تعالى "فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ۖ فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّه".
ولابد من التذكير ان الأمن وحدة واحدة لا تتجزأ على المستوى (الاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي، الفردي أو الجماعي) والأمن الانتخابي واحد من مصاديق ما تقدم فلابد ان يضمن للناخب والمرشح والمواطن عموماً الأمن في ممارسة حقوقه السياسية وفي مقدمها الانتخاب قبل وبعد وأثناء يوم الاقتراع، فهنالك العديد من المخاطر التي تتهدد ذلك ومن شأنها ان تعكر صفو العرس الديمقراطي نعرض لبعضها وفق الآتي:
أولاً: العوامل الاقتصادية:
فهنالك العديد من الأسباب التي تعود إلى الاقتصاد من شأنها التأثير السلبي على الأمن الانتخابي ومنها:
1- الفقر والبطالة: إذ تحرص الكثير من الشخصيات أو الأحزاب التي لا تؤمن بالمذهب الديمقراطي على استثمار عوامل الفقر للإجهاز على أصوات الناخبين من الطبقات الفقيرة تارة بالوعود الانتخابية الزائفة أو بتقديم الرشا الانتخابية أو بمحاولة تضليل هؤلاء على الرغم ان أعدادهم لا يمكن ان يستهان بها في كل المجتمعات بما فيها الغربية.
2- الاستقلال الاقتصادي: فمتى تحقق استقلال الفرد اقتصادياً عن الدولة كلما كانت خياراته الانتخابية أكثر رشداً، والعكس على ذلك صحيح فكلما ارتبط الفرد بالدولة عبر تبني سياسات اقتصادية اشتراكية أو ربط النشاط الاقتصادي والحركة المالية بالدولة كلما ارتبط مصير الدولة بالنخبة السياسية ومصير الفرد بهؤلاء ممن سيتهددون معيشته وعمله فلا يملك محيصاً غير الرضوخ لرغباتهم السياسية.
3- الوظائف السياسية: حين تضعف الدولة اقتصادياً وتقل استقلالية ومهنية المؤسسات الاقتصادية ويعتمد التخطيط المركزي بالتأكيد سيلقي ذلك بظلاله على الفرد ممن سينتظر الوعود الانتخابية بالتعيين أو بتوفير الوظائف أو دفع الأموال لفئات معينة مما يرسخ أسس المجتمع الاستهلاكي وتعمق الاقتصاد الريعي لضمان بقاء النخبة السياسية في السلطة.
4- التفاوت في القدرة المالية: إذ ان التفاوت في القدرة المالية بين الأحزاب والقوائم يمكن ان يحقق التفوق لتلك الأحزاب المتحكمة بمقاليد السلطة وتضعف الأحزاب المعارضة لها إلى الحد الذي تعجز فيه عن مجاراتها في الانتخابات أو في الرقابة وكشف المخالفات ما يؤثر وبشكل سلبي على الأمن الانتخابي.
ثانياً: العوامل الاجتماعية:
إذ للنظام الاجتماعي تأثير متبادل مع النظام الانتخابي بلا أدنى شك فكلاهما سيؤثر في الآخر ضمن متلازمة التأثير الأبعد والأعمق من خلال:
1- تأثير العوامل الاجتماعية في نضج الخيارات الفردية الانتخابية: إذ ان التخلف الاجتماعي من شأنه ان يقود إلى تأثيرات سلبية في خيارات الناخب فبدل التركيز على التنافس الإيجابي البرامجي سيكون للخلفيات الاجتماعية أثر مباشر من شأنه ان يعيق التقدم الديمقراطي ويكرس التخلف.
2- تأثير النظام الانتخابي في النسيج الاجتماعي: فتقسيم الدوائر الانتخابية وتفاوت الخدمات العامة من شأنه ان يحدث شروخاً اجتماعية لا يمكن ان تندمل بيسر وسهولة وبالمحصلة سيتضرر المجتمع كونه مكون من مجموعات غير متجانسة، ومن صور المشكلات الاجتماعية التي تتفاقم:
أ- الحالة العشائرية والقبيلة الضيقة التي من شأنها إثارة نعرات الفرقة والخلاف وليس الاستنهاض للقيم العشائرية الكريمة المرتبطة بالحالة الإنسانية.
ب- النعرات الطائفية والقبلية والفردية البعيدة كل البعد عن الشعور بالمواطنة وتكريس أسسها.
ثالثاً العوامل الثقافية:
لايمكن إنكار ما للعامل الثقافي من أثر في سلوك الناخب والمرشح ونضج النظام السياسي عموماً ويتجلى ذلك في العديد من الاحتمالات:
أ- المجتمعات التي تعايشت مع الأنظمة الدكتاتورية لفترة طويلة بحاجة إلى فترة انتقالية تمهد الطريق نحو الانتقال بشكل سلس إلى الحالة الديمقراطية التي تمكن الناخبين من معرفة حقوقهم وحرياتهم ويمارسونها على نحو من الرشد.
ب- الثقافة الاجتماعية من شأنها ان تؤثر على رشد العملية الانتخابية ففي المجتمعات الريفية أو القبلية أو الفقيرة تسود قيم ثقافية معينة من شأنها التأثير على الأمن الانتخابي.
ج- المجتمعات الصناعية وشبه الصناعية هي الأخرى سنكون لها تقاليدها الثقافية التي تحدد خياراتها السياسية.
د- مستوى الوعي الثقافي سيكون عامل حاسم في رشد الخيار الانتخابي.
رابعاً: العوامل القانونية والقضائية:
فهي الأخرى من شأنها التأثير المباشر على الأمن الانتخابي ونعرض لها بوصفها أهم ضمانات تحقيق ما تقدم:
أ- العامل القانوني وأثره في أمن الانتخابات: أغلب المشاكل التي تعيق الانتقال الديمقراطي للسلطة أو تؤخر ما تقدم تعود بالدرجة الأولى إلى القوانين أو الأنظمة القانونية المتعلقة بمفاصل العملية الديمقراطية والتي تتمثل في:
- تشكيل الدوائر الانتخابية: فمن الملاحظ ان المشرع العراقي انتقل وعلى مدار عشرين سنة الماضية بين تقسيمات الدوائر الانتخابية إذ اعتبر العراق دائرة واحدة تارة وتارة أعتبر المحافظة دائرة انتخابية وانتهى الأمر إلى إقرار المحافظة مقسمة إلى عدة دوائر في قانون انتخابات مجلس النواب العراقي رقم (9) لسنة 2020، بيد انه سرعان ما لبث ان عاد إلى اعتبار المحافظة دائرة واحدة في قانون تعديل قانون الانتخابات رقم (4) لسنة 2023، ما يمثل تخبطاً ومانعاً من تشكل أعراف وتقاليد شعبية انتخابية قادرة على تحقيق التمثيل المتكافئ والأمن للإرادة العامة، لذا تمثل المادة (15) من قانون الانتخابات النافذ رقم (12) لسنة 2018 المعدل تحدياً لكوتها اعتبرت المحافظة دائرة واحدة لأغراض انتخاب النواب أو أعضاء مجالس المحافظات.
- طريقة تشكيل القوائم الانتخابية وشروط الترشح: فقد انتقل التشريع العراقي كذلك إلى الإقرار بأكثر من طريقة لتشكيل القوائم من المغلقة إلى المفتوحة جزئياً إلى المفتوحة بالكامل ومن الترشيح في القوائم إلى الترشح الفردي ثم العودة بعد ذلك إلى نظام القائمة شبه المغلقة، وإتباع طريقة سانت ليكو المعدل بصيغته الأخيرة التي أقرت بقانون الانتخابات النافذ بالمادة (12) بدل اعتماد أكثرية الأصوات لإعلان فوز المرشح الذي أقر بقانون الانتخابات الملغى للعام 2020، ما يحول حتما دون تحقق الأمن الانتخابي للمرشحين المستقلين والوطنيين غير المتحزبين أو ممن يفتقدون إلى الأموال الطائلة للتنافس مع الأحزاب الكبيرة.
- تشكيل الهيئة المشرفة على الانتخابات: إذ يعد اختيار أعضاء اللجان الانتخابية أو الهيئات المشرفة على سير عملية الاقتراع من أهم الضمانات القانونية فهو عامل حاسم من شأنه ترشيد الانتخابات وجعلها مرآة صادقة تعكس تطلعات وخيارات الناخبين، لذا ينصرف ما تقدم إلى تشكيل واختيار موظفي المفوضية العليا المستقلة للانتخابات في العراق المؤسسة بموجب القانون رقم (31) لسنة 2019 فكلما توفرت الضمانات الكفيلة باستقلال أعضائها عن السلطتين التشريعية والتنفيذية كلما اقتربنا من أمن انتخابي حقيقي إذ تقضي المادة الأولى من هذا القانون بأن "تؤسس بموجب هذا القانون هيئة تسمى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات وهي هيئة مهنية مستقلة ومحايدة تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال المالي والإداري وتخضع لرقابة مجلس النواب"
- التنظيم القانوني لاختيار أجهزة ومعدات الاقتراع العام: فبدون الضمانات القانونية التي تكفل اختيار أكفأ المعدات وتشغيلها من قبل المختصين المحايدين وتوفير أمن المعلومات والبيانات فلن يتحقق الأمن الانتخابي، ومن الملاحظ ان العراق تحول إلى النظام الالكتروني في فرز الأصوات بموجب قانون الانتخابات النافذ بموجب المادة السادسة عشر.
ب- العامل القضائي وأثره في أمن الانتخابات: المحاكمة العادلة أحد أهم ضمانات نظام الحكم الديمقراطي وإذ أحالنا الدستور العراقي إلى الانتخابات والى التداول السلمي للسلطة في لعراق كطريق وحيد لتسنم المناصب العامة في البلاد بمقتضى المادة (5) التي أسست لسيادة القانون وأن الشعب مصدر السلطة وشرعيتها يمارسها بالاقتراع العام السري المباشر، عبر مؤسساته الدستورية، فلابد من البحث والتوسع في ضمانات من شأنها ان تحقق الأمن الانتخابي وتجعل الجميع بمن فيهم المرشحون مطمئنين إلى صحة الإجراءات السابقة والمعاصرة للاقتراع العام إذ ان اختيار الشعب لممثليه في المجالس المنتخبة يمر بمراحل وأدوار مختلفة تتطلب تضافر الجهود لمنع أي شكل من أشكال العنف السياسي أو الاجتماعي أو الديني، لذا فالمسؤولية تضامنية تتطلب من الجميع أفراداً وهيئات التضامن والعمل المشترك لتوفير الأجواء الأكثر تناسباً مع الحالة الديمقراطية لاختيار الممثلين الشرعيين والحقيقيين عن الإرادة الشعبية، وقد أشار قانون المفوضية العليا للانتخابات إلى تشكيل إدارة قضائية مستقلة ضمن تشكيلات محكمة التمييز العراقية وكان لرقابتها وقراراتها الفضل الكبير في ترشيد الكثير من قرارات المفوضية العليا المستقلة للانتخابات.
http://ademrights.org
ademrights@gmail.com
https://twitter.com/ademrights