انتهى الرأي لدى أكثر الفلاسفة ان للسلطة نشوة قد تعبث بالحكمة وتميل بالتصرفات أو تنحرف بها عن جادة الصواب، لذا كان قبال السلطة المسؤولية أولا، ولا يمكن ان تتحقق المسؤولية ما لم يكن هنالك جهة أو جهات تأخذ على عاتقها مساءلة القابضين على السلطة بشتى الوسائل والأوقات للتأكد من وقوع الخطأ من عدمه وكل ذلك لأجل تحقيق المصلحة العامة.
والجهات المجتمعية واحدة من أهم سلطات المساءلة وتعد بحق أداة لردع ومنع الفساد الانحراف، إذ تعرف المساءلة عموماً بأنها التحقق من وقوع الأخطاء، أو هي الوقوف على شرعية الأعمال أو التصرفات الصادرة عن المسؤولين الحكوميين، والغاية الأساسية من المساءلة التأكد من وقوع مخالفات مفترضة تمهيداً لتوقيع الجزاءات الإدارية المناسبة، فالهدف منها التفتيش عن المسؤولية أو تحمل التبعة عن الأفعال، إنها نهج من شأنه الإسهام الفاعل في بناء المؤسسات العامة بعيداً عن الانحرافات، والمساءلة بالاعتماد الجهات الاجتماعية من شأنها الاعتماد على المشاركة المدنية.
إذ يسهم المواطنون العاديون أو منظمات المجتمع المدني أو النقابات والاتحادات، أو الجهات المتقدمة جميعاً بشكل مباشر أو غير مباشر في إخضاع الجهات الحكومية للقانون وتحملها تبعة أفعالها، ويمكن للسلطات العامة أو المواطنين أو كليهما وضع آليات المساءلة وتدعيمها مستقبلاً بشكل يزيد من فاعليتها، وتحقق المساءلة ثلاثة عناصر رئيسة هي:
أولاً: ترقية الإدارة العامة: إذ ستضطر السلطات الإدارية إلى تطوير أساليبها ووسائلها للارتقاء بالخدمات العامة بغية تحقيق المصلحة العامة أولاً، وإحراز رضا الأفراد ثانياً.
ثانياً: تحقيق الفاعلية الإنمائية: بمعنى ستكون دافعاً للتنمية الإدارية وتحقق حالة من التحديث المستمر لهياكل ووسائل أو أدوات المرافق العامة.
ثالثاً: التمكين: إذ تفضي أدوات الرقابة المجتمعية إلى تحفيز المسؤولين التنفيذيين والتشريعيين ليكونوا وعلى الأمد المتوسط والبعيد أكثر استجابة للمطالب الشعبية وأقرب إلى الواقع المعاشي، بل وأكثر صراحة ونزاهة.
وتعد الانتخابات التشريعية أو المحلية أهم تجليات المساءلة الاجتماعية فيها يمكن محاسبة المسؤول المقصر وعدم تجديد الثقة به، مع ذلك فقد ثبت أن هذه الأداة قد يصيبها الضعف في الكثير من الأحيان إذ ان العديد من المجتمعات غير قادرة على إعمال المساءلة الحقيقية للحكام بالانتخابات بل ان المال السياسي والأساليب الملتوية التي تنتهجها الأحزاب المتنفذة تحد كثيراً من المساءلة الاجتماعية وتحرفها عن مقاصدها.
ومن المفترض أن المساءلة لا تتم في الانتخابات فحسب بل ينبغي لتكون فاعلة ومؤثرة ان تقوم على مجموعة من الإجراءات والآليات التي تمكن المواطن من التأثير في الشأن العام، وأخص في هذا المقام العمل الفردي والجماعي القادر على التأثير في السلطة الحاكمة من خلال أنشطة مكونات المجتمع المدني، لاسيما وسائل الإعلام والحوكمة، والجهود التشاركية، وتوفير البيئة الداعمة لتمكين المواطنين والمنظمات غير الحكومية من صياغة خطاب مؤثر في القرارات والسياسات العامة، وتتبع تلك القرارات لمعرفة نتائجها ومحاسبة متخذيها ان كانت تنعكس سلباً على الواقع لا سيما على الخدمات العامة والوضع العام للدولة ومركزها القانوني في المجتمع الدولي.
فالمساءلة المجتمعية هي رقابة مجتمعية تؤدى بمجموعة من الأدوات والتي يكون المواطن محورها الأساسي وكذا المنظمات غير الحكومية والنقابات والاتحادات والإعلام، للوقوف على أداء المسؤولين الحكوميين وموظفي القطاع العام، ويمكن بالتالي الوصول إلى حالة من الشفافية التي تدعم نزاهة السلطة العامة وكفاءة موظفيها، وتكون مقدمة لبلوغ الحكم الرشيد، والالتزام التام بأحكام القانون، ومن الواضح ان نظام الحكم الخاضع للمساءلة هو أحد دعائم دولة القانون ومطلب شرعي للجماهير في مخالف المجتمعات حول العالم، ويعد هذا النظام أحد أهم تجليات الحقوق السياسية للمواطن لذا ظهرت تطبيقات عدة تمثل تطوراً لمبدأ مشاركة الأفراد في تحديد شكل نظام الحكم واختيار الحكام ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد بل نجد ان الأفراد يمارسون أدواراً متزايدة على صعيد المساءلة المجتمعية للحكام فمن الاحتجاج المجتمعي الذي اتسم في أول الأمر بحياء في تطبيقاته إلى ما نراه اليوم من تجليات عديدة منها:
1- المظاهر الاحتجاجية: كالتظاهر السلمي والاعتصام والعصيان المدني.
2- الثورة الشعبية والهياج الشعبي.
3- الاقتراح الشعبي.
4- الإقالة الشعبية للمسؤول الحكومي.
ومن نافلة القول ان العديد من الدول تبنت وبشكل صريح أنماطاً من تطبيقات الديمقراطية التشاركية كنظام سليم للحكم الديمقراطي إذ يسهم الأفراد مع السلطات العامة في انجاز العديد من المهم ومنها الرقابة والمساءلة بغية ضمان الشفافية في نظام الحكم وتحسين مستوى الخدمات العامة، وللمساءلة المجتمعية إجراءات يقودها المواطن الفرد سواء في الانتخابات أو ما بعدها لتعزيز الخيار الديمقراطي وتأكيد السيادة ولتؤتي المساءلة أكلها لابد من تمكين المواطنين من أدواتها وأهم تلك الأدوات:
1- التزام هيئات الدولة بالإفصاح عن البيانات الدقيقة والأرقام الحقيقية على مستوى جميع الفعاليات.
2- تمكين الأفراد من الوصول إلى المعلومة.
3- الإعلام الواعي لا سيما الإعلام الاستقصائي ودوره في كشف العديد من الحقائق.
4- مساهمة الأفراد في إعداد ومناقشة القوانين والقرارات الحكومية المهمة وفي مقدمها قانون الموازنة لضمان عدم المجاملة على حساب المصلحة العامة وإقامة جميع الأرقام على مستوى من الموضوعية والبعد عن التلاعب، فان تعذرت المساهمة في قانون الموازنة ممكن ان تتجزأ المساهمة في إعداد البيانات المالية للبلديات والمحافظات والأقضية وهكذا يمكن رسم استراتيجيات مالية مستقبلية بمساهمة الأفراد.
5- إيجاد المنصات الإلكترونية المناسبة القادرة على إبراز الاتجاهات الأولية للرأي العام كالمنصات التي تنظم الاستفتاءات الشعبية عن المسائل ذات الاهتمام العام.
6- إقرار الحق بالاجتماع وعدم التضييق على التجمعات العامة بأي شكل من الأشكال.
7- التزام الهيئات العامة بتحقيق أسس التمكين والتنمية لاسيما البشرية والتي يعد التعليم أحد أهم مقوماتها العامة، إذ ان رفع المستوى الثقافي والتعليمي من شأنه ان يخلق جيلاً قادراً على مساءلة الحكام والوقوف على إخفاقاتهم ومحاسبتهم على الأقل بعدم إعادة انتخابهم من جديد.
8- تمكين منظمات المجتمع المدني بوصفها أحد أهم محركات الرأي العام وتمارس دوراً مزدوجاً في تكون وتبصير الرأي العام، وتحديد اتجاهاته.
9- الاهتمام بالانتخابات والاستفادة من أدواتها ومنها الحملات الدعائية الانتخابية التي يمكن ان تستثمر مجتمعياً بمساءلة مسبقة للمرشحين لوضعهم أمام مسؤولياتهم الأخلاقية والقانونية.
ان المساءلة الاجتماعية من شأنها ان تحقق العديد من المزايا وأهمها الآتي:
1- تحقيق المساواة: فمن شأن تفعيل دور المواطن ان يحقق المساواة التي أرادها الدستور العراقي في المادة الرابعة عشر بأن العراقيين متساوون أمام القانون لأفرق بينهم بسبب الجنس أو العرق أو الطائفة، ولذا في إعمال أدوات المسالة ستسهم في تعزيز دور المرأة العراقية ويمكنها من التصدي للقضايا الحاسمة التي تتصل بالأسرة والطفل والمرأة والفئات الأكثر ضعفاً بل ان ذلك يسهم في تصدي المرأة لأدوار قيادية باتجاه التحرك الاجتماعي وصياغة سياسات عامة عادلة تراعي النوع الاجتماعي في القرارات الحكومية ذات الصلة.
2- تحقيق تكافؤ الفرص: ان أعمال المبادرات المجتمعية للتصدي للمسائل العامة من شأنه ان يحقق تكافؤ الفرص بين جميع المكونات المجتمعية فتنظيم الاستفتاءات العامة على سبيل المثال سيمنح الفئات التي لا تصنف بأنها من النخب المدنية أو المساهمة في تكوين المنظمات غير الحكومية والنقابات كفئات العمال والفلاحين من الإسهام في تلك الفعاليات وقول كلمتهم أسوة بأقرانهم في المجتمع، أضف لذلك أن العمل المجتمعي الجماعي من شأنه ان يحفز الكثير من الفئات على التعبير عن ذاتها كفئة الشباب أو النساء أو الأقليات.
3- تعزيز الحق في الحصول على المعلومة: إذ سيكون هنالك تبادل للبيانات الرسمية الدقيقة ونشر دوري لأهم الإحصاءات والأرقام الرسمية وما تقدم من شأنه إذكاء حوار ونقاش عام هادف إلى تعزيز دور الفرد في الشأن العام.
4- تعزيز مكانة الإعلام الحر: فالأخير يمثل سلطة رابعة وله دور كبير في توعية المواطنين، ورصد المخالفات والانحرافات والفساد، كما ان وسائل التواصل الاجتماعي تمثل وبحق فضاء واسع للنقاش العام.
5- المرونة: إذ ان الرقابة المجتمعية تتمتع بالمرونة فهي تتسع لتشمل مستويات الحكم كافة فقد تكون على المستوى الاتحادي والمستوى دون الاتحادي أو المحلي أي على مستوى المحافظات والأقضية والنواحي والأقاليم.
6- الثقة: إذ من شأن المساءلة المجتمعية ان ترمم الثقة وتمد جسورها بين المواطن والمسؤول، لاسيما وان الفساد أو إساءة استعمال السلطة أو الانحراف عن مقاصدها من شأنه ان يباعد بين المواطن والمسؤول وتسود بينهما حالة من عدم الارتياح وعدم الثقة.
7- المعونة: ان الرقابة المجتمعية من شأنها ان تعين الرئيس الاداري على إدارة الهيئة أو المصلحة الحكومية بنحو من الكفاءة كونها ستشخص مواطن الضعف والخلل ويمكن إخطار الرئيس بموارد النقص أو القصور في أداء المؤسسة فتكون بذلك مرآة تعكس صورة الأداء الحكومي وفرصة للتطوير والتغيير الايجابي.
8- النزاهة: إذ يسهم أفراد المجتمع بتحقيق رقابة فاعلة على الأداء الحكومي وتشخيص مبكر لوسائل الفساد ومحاصرة لأسبابه من شأنها ان تحد من مخاطره وتقلص من أضراره على المجتمع والدولة ككل.
9- الاقتصاد: فمن شأن أنماط الرقابة غير التقليدية ان تحقق الاقتصاد بالإجراءات والروتين الحكومي لقرب المواطن من المسؤول والإلزام القانوني على الأخير بالاستماع للمواطنين والاستجابة لشكواهم ما يحقق اختصاراً بالروتين ويقلص النفقات الإضافية غير الضرورية.
10- الواقعية: ان إعلان الهيئات المحلية عن أنشطتها المستقبلية ومواردها المالية المتاحة أو المتوقعة من شأنه ان يحقق الواقعية في عملها ويمنع حالات المبالغة أو الادعاءات الكاذبة أو المشاريع الوهمية التي يجري افتتاحها على الورق وليس على أرض الواقع.
ويشار إلى ان المشرع العراقي في التعديل الثالث رقم (12) لسنة 2018 لقانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم قد خطى خطوة متقدمة نحو الديمقراطية التشاركية مع الأفراد حين الزم المجلس المحلي بإعلان مشروع الموازنة المحلية بكل وسائل الإعلام وفتح قنوات تواصل مع الأفراد والمنظمات غير الحكومية وعقد المؤتمرات والندوات لشرح المضامين وتلقي الملاحظات، في حين ان المشرع المصري وعلى ذات الصعيد المحلي قد خطى خطوات متقدمة إذ ورد بالتعديل الأخير لقانون نظام الإدارة المحلية رقم (43) لسنة 1979 في المادة (41) أن للمجلس الشعبي المحلى بالاتفاق مع المحافظ أن يقرر تمثيل المنتفعين من المواطنين في الإدارة والإشراف على المشروعات والأجهزة والوحدات والخدمات العامة.
http://ademrights.org
ademrights@gmail.com
https://twitter.com/ademrights