حينما يدور البحث حول الحقوق والحريات في الفكر الإسلامي فبالتأكيد الأمر لا يخرج عن بعدين مهمين هما، البعد الفكري والثقافي المتمثل في مجموعة المبادئ والقيم التي رسختها رسالة السماء، إذ بالرجوع لمصادر الحكم الشرعي من القرآن العظيم والسنة النبوية المشرفة نلتمس ما لا يمكن إحصائه من النصوص الممثلة لقواعد أمرة هدفها التأسيس للحقوق والحريات وتنظيم الحياة العامة (للمجتمع) والخاصة (للأفراد) على نحو من التكامل والتعاون بغية الوصول إلى الحياة الحرة الكريمة.
أما البعد الأخر فهو البعد القانوني المتمثل فيما تفرضه النصوص الشرعية من التزامات وما يترتب على مخالفتها من أثار تتمثل بالمسؤولية والمحاسبة أو اقاع العقوبة سواء منها الدنيوية أو الآخروية، ففي العديد من الأحيان نجد ان الحكم الشرعي يقترن بالعقاب الدنيوي كعقوبات الحدود أو التعازير أو ما سواها وفي أحيان أخرى نجد ان العقوبة تتراخى لتكون آخروية فالهدف الأسمى للشريعة هي صقل الجانب الأخلاقي للإنسان وانتزاع عوامل الشر والرذيلة من النفس البشرية فان بلغنا هذه الغاية فبالتأكيد سنعيش في مجتمع تسوده الفضيلة وتعلو فيه الكرامة الإنسانية.
ومما لا شك فيه ان فكرة قيام حكومة الإمام المهدي تحمل بين طياتها الكثير من القيم الأخلاقية والمعرفية والقانونية التي تقترن بحكومة الحق والعدل بإزالة كل العوامل المؤدية إلى الفقر أو الحرمان أو العدوان على الآخرين وتحقيق مفاهيم الرفاهية للجميع، فمن الثابت ان عمارة الأرض وخلافتها واجب شرعي وإنساني على الجميع إذ يقول تعالى "وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ"، وان استعمار الأرض واستخراج خيراتها من شأنه حتماً ان يهيأ الأرضية الصالحة لتحقيق النموذج الاقتصادي والاجتماعي الأمثل القادر على الاستجابة المرنة للحاجات الفعلية وتلبية المتطلبات للناس كافة على نحو من المساواة وعدالة التوزيع.
فالإنسان كائن متكون من روح وجسد ومن مسؤولية الدولة ان توفر له المتطلبات الأساسية لإشباع حاجاته المادية كون جسده يضم مجموعة من الغرائز التي لا سبيل إلى مقاومتها بل لابد من إشباعها وتهذيبها لتكون عقلانية إلى حد ما، وبالوقت عينه هناك حاجيات روحية تتمثل في الجوانب الاعتقادية والضمير والتفكير والتي لابد ان يترك الخيار للإنسان ليتمكن من إشباعها بقناعة وحرية ليصل إلى مرتبة الإيمان القائم على أسس موضوعية.
وعطفاً على ما تقدم نجد ان السيرة النبوية التي سار عليها النبي الأكرم وأهل بيته الكرام ومنهم الإمام المهدي قائمة على الاعتراف بالغرائز والحاجات التي لابد من إشباعها ولذا اجتهدوا في وضع أسس نظام اقتصادي واجتماعي واسري متوازن من شأنه ان يحفظ الضروريات الخمسة لبني الإنسان، فلم يدعو أياً منهم إلى حياة الرهبنة وترك الحياة واعتزال المجتمع بل كان الحث دائما يركز على العلم والعمل كونهما حبل النجاة الوحيد للمجتمع إذ العمل يرسخ الحياة الكريمة والعلم يستنقذ العباد من مهاوي الشر والرذيلة، ثم بعد ذلك انطلقوا صلوات الله عليهم إلى بناء الإنسان والمجتمع اخلاقياً من أجل خلق حالة من الموازنة بين ضروريات الحياة العامة والخاصة.
ولما تقدم يمكن القول ان الرسالة المحمدية الشريفة لابد ان تستكمل بتشكيل حكومة عدل تمثل قوة تنفيذية رسالية تتمثل برئيس الدولة وهو الإمام الحجة عليه السلام الذي يحرص على ان تملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ان ملئت ظلماً وجوراً فمهمته استمرار لرسالة الأنبياء والمصلحين والمضحين، فإتمام الشريعة والنعمة على الناس لا يكون إلا بخروج المخلص القادر على ان يعيد الأمور إلى نصابها ولو في أخر الزمان، وهو القادر على تكريس الحقوق والحريات التي كفلتها الشريعة الغراء بالنص عليها بشكل مباشر أو الفتها مقررة بالعرف أو ما شاكل فأقرتها ولم تمانعها.
ودور حكومة الإمام هو تشخيص مكامن الخطأ وعوامل الظلم والقضاء عليها إذ ورد في الرواية الشريفة ان "حب الدنياً رأس كل خطيئة" فما وقع الاستبداد أو الفساد إلا لحب الدنيا المتأصل في النفوس وان مهمة الأنبياء الرئيسة كانت محاربة ما تقدم والإسهام في تهذيب النفوس والارتقاء بالمجتمع والفرد إلى مصاف الفضيلة والإمام الحجة بالتأكيد سيسعى إلى محاربة الفساد والطغيان من بوابة بيان خطورة حب الدنيا والإسراف في الاكتناز أو ما شاكل، فأيما حكومة تشكلت من الجبارين والمنحرفين والمتحزبين والفاسدين كانت حكومة باطلة وفاسدة وعاجزة عن إقامة العدالة بين الناس وتسير حينها البشرية إلى مهاوي الخطر والانحطاط، وأيما حكومة تشكلت من الناس الأتقياء والفضلاء سارت بالسفينة إلى شاطئ الأمان بتحقق التضامن الاجتماعي والتكامل الاقتصادي وقضت على عوامل المخاطر التي تتهدد الفرد والأسرة.
لذا من الثابت ان إشباع الحاجات الأساسية للإنسان يعصمه من الفقر ويمنع الأمراض النفسية من التسلل إلى شخصه فتسود حالة من الرحمة والألفة والمودة بين الحاكم والمحكوم وتبنى العلاقات العامة والخاصة على نحو من التكامل والتأثير المتبادل على أساس أهمية تحقيق حالة الاستقرار على مختلف الصعد، حيث يروى عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قوله في الفقر "ان الفقر مذلة للنفس مدهشة للعقل، جالب للهموم"، وقوله "العسر يفسد الأخلاق"، وان "الفقر يخرس الفطن عن حجته"، لذا حرص أهل البيت عليهم السلام على الإشارة إلى الدور المعهود للإمام الحجة في أيام دولته إذ سيحرص أولا وقبل كل شيء على محاصرة عوامل الفقر والفاقة بما من شأنه ان يحقق نهضة اقتصادية حقيقية، إذ ورد في الأثر عن النبي الأكرم ان الأمة الإسلامية ستعيش في حكومة الأمام في حالة من النعمة "تنعم أمتي في ولايته نعمة لم تنعمها قط"، وورد أيضاً "يكون في أمتي المهدي (عج) يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، وتمطر السماء مطراً كعهد آدم (ع) وتخرج الأرض بركاتها، وتعيش أمتي في زمانه عيشاً لم تعشه قبل ذلك في زمان قط"، وورد عن الإمام الباقر عليه السلام "القائم منا منصور بالرعب ومؤيد بالنصر وتظهر له الكنوز، ولا يبقى في الأرض خراب إلا عّمر" وذاك مصداق لقوله تعالى "وَلَوْ أنَّ أهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَات مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" وقوله أيضاً "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلُ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأمْوَال وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّات وَيَجْعَلْ لَكُمْ أنْهَاراً".
فالبشرية تعيش حالة أزمة أخلاقية في وقتنا الحالي لا تحتاج إلى تدليل أو نقاش مستفيض فظلم الإنسان لأخيه الإنسان بات هو الأصل، إذ لو نظرنا إلى واقع المجتمع الدولي أو الوطني سنلحظ بعض السلوكيات التي أرهقت الدول والمجتمعات وأمعنت في الظلم والطغيان كالحروب العبثية والاستبداد والتطرف، والتفرد والاحتكار والربا والغصب، غياب العدالة في توزيع الثروة ومصادر الرزق، الفساد الإداري والمالي على المستوى العام والخاص، تحكم الشركات بالأسواق وإقدامها على سرقة قوت الشعوب بطرق ملتوية كثيرة، عدالة توزيع المياه لا سيما المياه المخصصة للاستعمالات البشرية والزراعية، التوسع غير المدروس على حساب الغابات والمساحات الخضراء، التوسع غير المتوازن بالصناعة وتلوث الهواء المحيط لإنسان ما تسبب بظاهرة الاحتباس الحراري والتي ألقت بوخيم ظلالها على الشعوب الفقيرة والدول المتخلفة، كما دأبت العديد من الدول على حث شعوبها على تقليل أو تحديد النسل لكنها اكتشفت بعد سنوات قليلة خطأ هذه الإستراتيجية وأثارها الوبيلة على الاقتصاد والمجتمع.
أضف إلى ما تقدم مخاطر الفضاء الالكتروني المفتوح والذي يمكن ان يستغل من قبل البعض لإشاعة الفتنة أو الضلالة أو الرذالة، لذا نجد لزاما التذكير بأهمية ان تتجه السلطات الحاكمة في الدول عامة والإسلامية خاصة إلى العدل والمساواة واحترام الحقوق والحريات فقد أكد أمير المؤمنين علي عليه السلام ذلك بقوله "آفة العمران جور السلطان"، تجنب الظلم والبغي والعدوان على الناس لأي سبب كان فقد ورد عن الإمام علي عليه السلام قوله "البغي يسلب النعمة"، العمل على توفير فرص مؤاتيه تتفق مع مؤهلات كل شخص مع احترام حرية اختيار العمل والأجر المتساوي للعمل المتساوي، والحرص على احترام الحياة الخاصة للجميع والبذل في سبيل تحقيق المصلحة العامة فقد ورد عن الإمام علي "ما هلك مال في برّ ولا بحرّ إلاّ لمنع الزكاة منه"، فقد شرع الإسلام منذ ما يربو على أربعة عشر قرناً من الزمان ليشرع للناس منهاجاً وديناً صالحاً في كل زمان ومكان، بيد ان جهود القادة الأوائل من المسلمين كأهل البيت عليهم السلام والصحابة الكرام والتابعين ستضيع لو لم يختر الله سبحانه قائداً يتحلى بالتربية الاسلامية والقيم الدينية الأصيلة ليعرف الناس بالعلوم المحمدية الأصيلة، لتخليص الناس من براثن الجهل والفرقة فالإسلام دين جاء ليرسخ قيم الخير وحفظ الحقوق وصيانة الحريات شأنه شأن كل رسالات السماء السابقة.
http://ademrights.org
ademrights@gmail.com
https://twitter.com/ademrights