لا تكاد أيام الحجر الإجباري والإغلاق التي شهدها العراق والعالم تنتهي إلا وتلوح في الأفق بوادر مخاطر جديدة تتهدد الحياة الطبيعية فمن التغير المناخي وأثاره المدمرة إلى الأوبئة والمخاطر الاقتصادية التي تسببت بها الحروب والعدوان وتنامي مخاطر الجماعات المسلحة الإرهابية يبرز إلى الواجهة تساؤل مهم مقتضاه (ماذا استفادت الحكومة العراقية والهيئات العامة من الأزمات السابقة؟)
وفي معرض الإجابة نقول ان العقل والمنطق يحتم على كل صانع قرار ان ينهج إلى سبل مبتكرة وحلول عصرية قادرة على استيعاب حالات الطوارئ وتقديم الخدمات العامة بشكل يساير المتطلبات الحقيقية، فالكثير من الدول أثناء وبعد أزمة كورونا تعلمت دروساً في الحياة وخدمة الجمهور بما يمكن المرافق العامة من الاستمرار بالعمل لتمكين الأفراد من العيش الكريم، وكان ذلك يبدأ بالتحول الأمن والسريع إلى الحكومة الإلكترونية ورقمنة التعاملات لمواجهة أي مخاطر تقتضي تخفيف تواجد الناس في أماكن بعينها، بل ان من مقتضى الواجب والمسؤولية على الحكومة ان تسهم في تخفيف البيروقراطية التي أثقلت كاهل المواطن العراقي.
فهذا المفهوم من العمل الإداري يشير إلى تطبيق القوانين بنحو من التزمت في المجتمع المنظم بإجراءات موحدة وتوزيع الاختصاصات والمسؤولية الناشئة عن ممارستها بطريقة هرمية، بمعنى أنها تنهج إلى إتباع الروتين اليومي المعتاد بعيداً عن الإبداع لحصر سلطة اتخاذ القرار بالرئيس الإداري وخوف الموظف من التجدد أو الابتكار وتفضيله السير وفق الخطوات الإجرائية المرسومة تشريعياً قبل عشرات السنوات ما يعني تراكم العمل في دواوين الوزارات وميل الموظف إلى التسويف والتأخير لتجنب الوقوع في الأخطاء.
وما تقدم يقف في مواجهته كل المحاولات الهادفة إلى تحديث الإدارة العامة والخروج عن الأنماط التقليدية في العمل، فالإدارة الإلكترونية للمرفق العام تعني الاستفادة القصوى من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لتحسين وظائف المرفق العام وتقديمه للخدمات وتوسيع شبكة المنتفعين بكفاءة، بعبارة أخرى تحقيق الفاعلية في تقديم الخدمة العامة والقضاء على الروتين والبيروقراطية التي رافقت عمل الحكومة منذ تأسيس الدولة العراقية، ويحقق هذا التحول للإدارة ميزات عدة منها:
1- رفع كفاءة الجهاز الإداري فنقل الاختصاصات وإعادة توزيعها من شأنه أشراك أكبر عدد من الموظفين في اختصاص اتخاذ القرار وعدم حصر هذه السلطة بالرئيس الإداري ما يعني المرونة والفاعلية والسرعة في انجاز العمل.
2- يسهم التحول إلى الإدارة الرقمية في التوثيق الآمن للبيانات المطلوبة كونها لا تحتاج إلى إجراءات إضافية (كصحة الصدور–وصور القيود الأصلية) وما سواها فالبيانات دونت من قبل دوائر حكومية وما انتهت إليه أمن وصحيح كدوائر الأحوال المدنية ووزارة الصحة والتخطيط والتجارة ومن سواهم.
3- التخفيف من الإجراءات الروتينية والأعمال الورقية والمراجعات المتكررة للمواطن.
بيد ان ما تقدم قد تعترضه عقبات لا أقلها التخلف الإداري نتيجة غياب التخطيط في سياسة التوظيف في العراق فما تخرجه الجامعات العراقية لا يوازي بل لا يتلاءم مع حاجات سوق العمل، وتقادم التشريعات التي تعود بالغالب منها إلى حقب زمنية قديمة جداً عفا عليها وعلى سياستها التشريعية الزمن وأضحت لا تواكب قطار الحياة المعاصرة، وليس آخرها الفساد المستشري والقادر على الوقوف بوجه محاولات الإصلاح بل ان المستفيدين من الواقع الحالي يملكون القدرة على جعل أي إجراء أو تشريع يهدف إلى مكافحة الفساد بصالح الفساد نفسه.
فلذا لابد من التفكير بحلول يمكن ان تشرك التقنية والتكنولوجيا في العمل اليومي لاسيما الحكومي فالإدارة الإلكترونية هي استثمار التقنية والتكنولوجيا في العمل الإداري والحكومي اليومي لأداء وظائف السلطة التنفيذية على نحو من اليسر والسهولة، بمعنى ان تركن الهيئات العامة إلى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات لرفع مستوى الأداء الحكومي وزيادة الفاعلية والاستجابة الفورية للمتطلبات.
كما ان من شأنها الارتقاء بالرأي العام في الرقابة والمتابعة، وتمنع التحكم والانحراف بالاختصاصات من خلال إسناد اتخاذ القرار الإداري إلى الآلة والذكاء الاصطناعي الذي لا يحابي، لذا لا يمكن إلا ان نتحول إلى المدن الذكية القادرة على معالجة المشكلات والمرافق العامة الرقمية ولبلوغ ما تقدم ينبغي انتقاء الموظفين الأكفاء القادرين على التعامل مع المتطلبات ليتسنى للمواطن الحصول على الخدمات العامة بأقصر وقت وأقل تكلفة إضافة.
إلى ما تقدم يترتب على التحول:
1- وصول أسرع إلى الخدمات العامة، كما انه يسهم في تحقيق المساواة بين المواطنين.
2- يمكن من خلال التقنيات التي توفرها التكنولوجيا تحقيق تكافؤ الفرص بين الجميع بالحصول على الخدمات العامة في أي مكان في داخل الدولة أو خارجها.
3- التخلص المرن من الإجراءات البيروقراطية التي تعيق التقدم.
4- الربط الالكتروني بين مختلف الجهات التي لها علاقة بتقديم الخدمة.
5- تسريع تحقيق التنمية المستدامة على مختلف الصعد.
6- يمكن تسهيل التعاملات المالية والتمويلية، كما يمكن تقديم خدمات أمنة وتخضع لأعلى مقاييس الحماية والسرية.
7- تحقق المرافق الرقمية مستويات أعلى من الشفافية والمساءلة.
وعلى الجانب الأخر يمكن للتحول ان يواجه للبعض من التحديات ومنها:
1- تأمين التعاملات وتبادل البيانات.
2- توفير أمن البيانات.
3- الإطار القانوني والإداري.
4- نشر التوعية لاسيما ونحن نتعامل مع مختلف الفئات التي تتباين في مستوياتها الثقافية والاجتماعية والتعليمية.
5- تأمين المستلزمات من أجهزة ومعدات ووسيط العمل المتمثل بخدمة الانترنيت أو الانترنت الأمن والمناسب أو ما سواهما.
وقد ساعد على الانتقال إلى العصر الرقمي العديد من العوامل منها الانتشار الهائل للأجهزة والمعدات الإلكترونية وما توفره الهواتف الذكية من قدرة على تشغيل التطبيقات والمنصات الرسمية وغيرها، ومع إقبال كبير من المواطنين في العراق على الخدمات المقدمة الكترونيا، أو التي تم ربط الاستفادة منها بتقديم المعاملة والسير بإجراءاتها الكترونياً.
وللانتقال إلى الحكومة الإلكترونية لابد من توافر العديد من المقومات وأهمها:
1- الكوادر الوظيفية المهيأة للعمل: فالموظف العام هو الأداة الرئيسة لإدارة الأعمال اليومية للمرفق العام وبدونه لا يمكن للمرفق ان يسير بشكل منتظم، بيد ان الأمر لا يتوقف عند ما تقدم فليس كل الموظفين مهيئين للعمل بشكله الرقمي بما يفسح المجال أمام المرفق العام ليلحق بركب الإدارة الإلكترونية التامة أو النسبية على الأقل، وعندها يبرز دور المقومات الأساسية للارتقاء بالموظفين والتي تضمنها القانون العراقي في العديد من التطبيقات، ومنها ما ورد بقانون مجلس الخدمة العامة الاتحادي رقم (4) لسنة 2009 المادة (4) التي تنص على "يحقق المجلس أهدافه بالوسائل الآتية:
أولاً: تأسيس معهد يسمى معهد الوظيفة العامة وينظم عمله بقانون.
ثانياً: إلزام الوزارات بإنشاء مدارس للتطوير الوظيفي في وزاراتهم أثناء الخدمة بالتنسيق مع المجلس" لكن للأسف أياً مما تقدم لم يتحقق في العراق إلى اليوم.
2- التمكين: فليس للتحول الرقمي للخدمات الحكومية من معنى ان لم تكن تلك الخدمات في المتناول، بوجود خدمة الانترنيت وبأسعار معتدلة في متناول الجميع فان كان ذلك صعب المنال على بعض العراقيين فلا معنى للتحول، كما لابد من الحرص على ان يتفاعل الأفراد مع النظم الخدمية الجديدة بكونهم مكون الخبرة اللازمة للتعامل مع البيئة التكنولوجية التي اتبعتها الإدارة وبمحاكاة تمكن صغار وكبار السن المتعلم وغير المتعلم من الولوج والاستفادة وبخلاف ذلك سيكون الأمر محض انتهاك لحقوق الفئات الأكثر ضعفا أو الأكثر بعدا عن التقنيات لأسباب مالية أو اجتماعية أو تعليمية أو ثقافية.
3- ضمان الأمن: أي ان تكون هنالك ضمانات حقيقية للمستخدمين فلا تتعرض بياناتهم بأي شكل من الأشكال لمخاطر غير متوقعة كالاختراق والاستيلاء غير القانوني عليها أو ان تكون ميدان للتجسس أو التدخل بالخصوصية.
فان توافرت الأرضية المناسبة سنصل إلى مميزات العصر الرقمي ومنها:
أولاً: إدارة بلا أوراق: فلا ينعدم استعمال الأوراق والسجلات التقليدية بل على العكس يبقى التوثيق الورقي محتفظاً بدوره التقليدي بوصفه ذاكرة الإدارة العامة بيد ان عملية استلام الأوراق والوثائق الرسمية تتم بشكل الكتروني من خلال الرقم الوطني الذي تحتفظ به دوائر الدولة المعنية ببيانات تامة لكل مواطن، ويجري انجاز المعاملات وتحميل المتطلبات الكترونيا باستعمال البريد الالكتروني وغيره.
ثانياً: إدارة بلا مكان: فالإدارة الإلكترونية تتميز بان لا مكان محدد ينبغي على المواطن التوجه إليه، فلا يوجد مقر دائم، وطالب الخدمة يمكنه ان يقصد موقعاً الكترونياً ويملئ مجموعة من الاستمارات بوسائط الاتصال وعبر الانترنيت فقط.
ثالثاً: إدارة بلا قيود الزمان: فالإدارة التقليدية يعاب عليها أنها مقيدة بوقت الدوام الرسمي في الوقت الذي توفر فيه الإدارة الإلكترونية عمل على مدار (24) ساعة ونربح بذلك ان الوقت كله يخصص للخدمة العامة.
لذا هي دعوة لكل المعنيين في العراق بضرورة التوجه الأمن والسريع إلى الإدارة الرقمية للمرافق العامة بل ان المرافق التقليدية المعنية بتوفير الخدمات التقليدية كالشرطة وأجهزة الأمن مدعوة لتطوير أساليبها في تقصي الجريمة والقضاء على عناصر الخطر على المجتمع أفراداً وقيم، من خلال محاصرة وسائل الجريمة الرقمية من مخدرات أو متاجرة غير مشروعة بالجنس أو الأعضاء إلى التضليل التجاري والغش الذي يقع ضحيته المئات يوميا انتهاء بمحاصرة جرائم الابتزاز والتنمر الالكتروني.
http://ademrights.org
ademrights@gmail.com
https://twitter.com/ademrights