لما كان الدستور القاعدة الأسمى في البلاد وهو الذي يحدد شكل الدولة ونظام الحكم فيها، ويبين سلطاتها العامة، وعلاقة هذه السلطات بعضها بالبعض الآخر وعلاقتها بالشعب، وأخيراً يحدد الدستور الحقوق والحريات الأساسية للشعب، ومع الإقرار بأهمية هذا القانون ينبغي أن نتساءل هل أصبح لزاماً علينا التفكير في تغييره؟
لا سيما بعد الحراك الشعبي الأخير وما أبرزه من تغييرات في الوعي الجماهيري والمطالبات التي تمخضت عنه والتي يمكن اختزالها بمطلب إنهاء نظام الحكم المحاصصاتي المقيت، الذي أفرز طبقة حاكمة مستبدة وأخرى محكومة تنشد الحرية، فتجدد الصراع الأزلي بين السلطة وما تريد من عظيم التأثير في المجتمع بقراراتها التي تصوغها بما يحقق أحلامها وطموحاتها ولو كانت على حساب الشعب، والحرية التي تعد وبحق جوهر الحياة البشرية السعيدة فهي تحقق الكرامة الإنسانية وتنجز الوعد الإلهي للبشر بالإستخلاف في الأرض لأجل إحياءها.
ومما تقدم نتساءل هل نحن بحاجة لعقد اجتماعي يؤسس لعلاقة متوازنة بين السلطة والحرية؟ ويمنع الحاكم من الاستبداد أو التفكير بالانحراف نحو السلطة المطلقة أو باتجاه تحقيق مقاصد وغايات وإيدلوجيات لا تتفق ومصالح الشعب والوطن؟
ومن هذا المنطلق حق لنا التساؤل عن المركز الدستوري للشعب والحاكم؟ لتنظيم أطر العلاقة بينهما في ضوء ما يحقق علاقة قانونية تنظيمية قائمة على قواعد القانون لا تسمح للحاكم بوصفه وكيلاً الخروج عن مقتضيات المصلحة العامة وتسخير إمكانيات الدولة باتجاه إسكات الأصوات المعارضة لحكمه والمنتقدة لأدائه، فالدولة هي تشخيص قانوني للشعب والأخير يعد وحدة حضارية قائمة بنفسها، وتاريخياً هو سابق على وجود الدولة وركن من أركان الدولة، وهذا المعنى أشار إليه القرآن الكريم بقوله تعالى "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ"، ما يعني بصريح نص القرآن إن الإنسان عموما والشعب بوجه خاص سابق على الدولة والحاكم، وحين يستوطن الأفراد في إقليم معين يتحول بالنسبة إليهم إلى وطن، وما الحاكم إلا حاجة إنسانية لنظم أمور الحياة والسهر على الحاجات الجماعية المشتركة ويؤدي عملة باسم الجماعة ولحسابها.
وحين يجري الحديث عن الشعب ومركزه في الدستور والقانون العراقي نعتقد جازمين إن الدستور قد افرد مركزاً متميزاً للشعب بوصفه الغاية من إيجاد الدولة وتأسيسها حيث استهل الدستور مقدمته بالآية الكريمة "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ" فالإنسان هو المحور ثم أردفت المادة (5) القول إن الشعب مصدر السلطات وشرعيتها، وأضافت المادة (6) إن التداول السلمي للسلطة هو السبيل الوحيد لوصول الحاكم لسدة الحكم أياً كان مستوى المنصب اتحادي أو إقليمي أو محلي والأداة الوحيدة للوصول إلى ذلك هي الانتخابات الحرة النزيهة التي يعبر فيها المواطن عن إرادته بحرية تامة في اختيار ممثليه لمدة محددة.
وما تقدم من شأنه تنمية الشعور بالمواطنة أو الانتماء للوطن، ومن بعد ذلك تشرع القوانين وتتشكل السلطات العامة وتسير عجلة الدولة لإسعاد الإنسان، فهو الغاية مما تقدم وليس الوسيلة لبقائها، بل إن بقاء الحكم والسلطات العامة وشكل الدولة ككل رهن برضا الأفراد وتحقيق سعادتهم، وهذا ما أشارت إليه المادة (50) من الدستور التي تضمنت صيغة اليمين الدستوري حين ألزمت جميع المسؤولين بالقسم بالمقدس وبالذات الإلهية بأنه سيرعى مصالح الشعب.
ويترتب على ما تقدم جملة من النتائج القانونية ومن أهمها:
أولاً: إن الشعب هو أساس نشأة الدولة حين استوطن في ناحية من الأرض وبدأ بعمارتها، وأساس شرعية سلطة الدولة، فكل حاكم لا يحظى برضى الشعب يعد مغتصباً للسلطة، ومما تقدم لا نتفق مع التفسيرات التي سيقت لتبرير أساس شرعية السلطة، فلا يصح الاحتجاج بالنظرية الثيوقراطية أو الأساس المقدس لسلطة الدولة فحتى الأنبياء والرسل إنما بعثوا لينقذوا الناس من الخلافات والظلمات قال تعالى "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ"، وهذا دليل على ان الدولة لم تنشأ كما يعبر البعض بسبب قدسية الحاكم أو ان الأخير أبرم عقداً من نوع ما مع الأفراد ليتسلط عليهم بحجة حاجتهم للحاكم الذي ينظم أمورهم، وبالتالي لا يصح الاحتجاج أن النواب في البرلمان أو الوزراء في الحكومة تسلموا مناصبهم بالطريق الدستوري بالانتخابات، أو منح الثقة، ليستمروا في السلطة رغما عن إرادة الشعب، كون الأخير صاحب الإرادة الأسمى أعرف بمن يحرص على مصالحه وللازم ان يكون للشعب الحق المباشر بإقالة النائب أو الوزير حين يفشل في المهمة المكلف بها.
ثانياً: إن الحاكم مؤتمن على مصلحة الوطن والشعب وهو مجرد وكيل عن أفراد الشعب يمارس السلطة باسمهم ونيابة عنهم لفترة من الزمن ليتم تقييم عمله ويصار إلى تجديد ولايته أو الاستغناء عن خدماته فلا تقديس للحاكم ولا عصمة له من الزلل والخطأ بل هو كأي فرد معرض لارتكاب الأخطاء والتجاوزات ولهذا لابد من تضمن العقد السياسي (الدستور) ضمانات من شأنها ان تعيد الأمور إلى نصابها في حال تعسف الحاكم أو انحرف عن الغاية من إيجاد منصبه، فالغاية هي خدمة الأفراد والسهر على تحقيق مصالحهم الجماعية أو المشتركة كونهم يعجزون عن التفرغ لإدارة الشأن العام وهنالك عقبات تعترض طريق ممارستهم للسلطة بأنفسهم فيعهدون للحاكم بأمانة السهر على إشباع الحاجات الجماعية بالأمن وإقامة العدل والدفاع عن المجتمع ضد المخاطر التي تتهدده كالجريمة والمخاطر الطبيعية وغيرها.
ثالثاً: إن الأمم الحرة تاريخياً ثارت على الحكم المطلق وقاومت السلطان الجائر وهذا ما انتهى إليه القرآن الكريم بقوله تعالى "وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ" وقال تعالى "وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ" ويحدثنا التاريخ عن العديد من الحركات الشعبية التي قاومت استبداد السلطة الحاكمة وفي مقدمها ثورة أبي الأحرار الإمام الحسين عليه السلام، وكذا الثورات التي استهدفت الحكام في مشارق الأرض ومغاربها والتي أطاحت برؤوس الفساد والانحراف وأسست لحكم الشعب حيث رفعت شعارات لا تزال إلى اليوم مثار للنقاشات حول مدى التزام السلطة الحاكمة بحدودها فقد رفعت الثورة الفرنسية شعار سيادة الأمة وحملت الثورة الأمريكية شعار الحرية، وانتهى صراع الشعب الإنكليزي مع الملوك إلى إقرار وثائق مثل ملتمس الحقوق ووثيقة الحقوق، وغيرها.
رابعاً: إن السيادة وأداتها الرئيسية أي القانون هي للشعب وحده ولا يشاركه في الوقت الحاضر أي جهة أو شخص مهما على شأنه فالشعب مصدر للدولة ولشرعية سلطتها وهو من يؤسس الهيئات العامة بوسيلة الانتخاب وله أن يستبدل هؤلاء متى حادوا عن الطريق السوي ومالوا من الحق إلى الباطل أي من الحكم المقيد باسم الشعب ولحسابه إلى تحقيق غايات وأهداف أخرى، لا تلبي طموح أبناء الشعب وتمتهن كرامتهم وتنتقص من حقوقهم أو تسخر إمكانياتهم المادية والبشرية لأهداف أخرى تتعلق بالحاكم أو بامتدادات الحاكم التي تؤثر عليه كالبطانة أو الجهات الأخرى التي تسيطر على إرادته وتسيره بما يتفق مع إرادتها.
خامساً: العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي علاقة قانونية تتمثل بالتساوي في المركز القانوني تماماً فلا ميزة للحاكم سوى الرئاسة فحسب وهو مصداق قوله تعالى "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً" والحاكم هو الأخر مجرد خليفة يقول تعالى "يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ"، فالخطاب موجه إلى داوود وهو ملك نبي في آن واحد إذ لا يتميز في القرآن الحاكم عن المحكوم فكلاهما خليفة لإعمار الأرض، وفي الدساتير الحديثة الحاكم منتخب من الشعب لمدة محددة فهو ان قاربنا الفرضيات أشبه بالوكيل عن الشعب للقيام بواجبات الحكم بما يقتضيه من إصدار الأوامر والنواهي بصيغة القواعد القانونية المقترنة بالجزاء المادي الذي يوقع باسم الشعب (الجماعة) ولحسابها بما يكفل تحقق المصلحة العامة. فلا يمكنه القيام بالأعمال الضارة ضرراً محضاً بل له ان يقوم بالأعمال النافعة نفعاً محضاً للشعب كتقديم الخدمات أو الأعمال الدائرة بين النفع والضرر كالمضاربة لتحقيق الأرباح والتي تعود على الشعب بالرفاه الاقتصادي كإدارة الأنشطة المصرفية.
سادساً: العلاقة بين الشعب والبرلمان تتمحور حول فكرة الشورى إذ ان الحاكم لا يمكنه ان يقطع في جميع الأحوال بإرادته إنما عليه الركون إلى الشورى وأخذ الرأي الأقرب للصواب من أهل الخبرة والمعرفة ولهذا الأمر جذور قرآنية أيضاً قال تعالى "يَاأَيُّهَا الْمَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ" فالشورى تسبغ الشرعية على قرارات الحاكم وتجعلها أكثر عقلانية وأقرب إلى المصلحة العامة وتبعد عن الحاكم شبه الاستبداد بالرأي أو الانحراف باستعمال السلطة لغايات لا تتعلق بالمصلحة العامة.
سابعاً: إن نظام لشورى المشار إليه أعلاه بحسب اعتقادي مصداق للعقد الأخلاقي بين الحاكم والشعب وهو كمرحلة أكثر وأشد ديمقراطية من الأنظمة الديمقراطية النيابية لاسيما ما مطبق في العراق (النظام البرلماني/النيابي)، لكون هذا النظام يكتفي باختيار الشعب للحاكم وللمجلس النيابي ثم تحرمه من الاعتراض على قرارات هؤلاء أو استبدالهم إذا انحرفوا عن جادة الصواب بينما نظام الشورى يقوم على إلزام الحاكم بأخذ الرأي والمشورة في الأمور جميعاً لاسيما ذات الأهمية الكبرى، والآليات التي نحتاجها في دستور 2005 لنطبق نظام قريب من الشورى الإسلامية هي تبني نظام الاستفتاءات الشعبية بان يرد نص في دستور 2005 يكمل أحكامه وفق المقترحات الآتية:
1- وضع نص يكمل المادة (49) مفاده ((لعشرة ألاف من ناخبي الدائرة الانتخابية طلب إقالة النائب للأسباب التي يبينوها في الطلب فيعرض الطلب على الاستفتاء الشعبي داخل الدائرة فان وفق غالبية الناخبين وجب على رئيس الجمهورية تحديد موعد لانتخاب نائب بديل في موعد أقصاه (45) يوما من تاريخ إعلان نتيجة الاستفتاء)).
2- تعديل المادة (73) ووضع نص يقضي بالآتي: ((أولا/ لرئيس الجمهورية الاعتراض على القوانين التي يسنها مجلس النواب إن كانت مخالفة للدستور أو تتضمن تحميل البلاد لالتزامات طويلة الأمد فان أصر المجلس على قراره عرض الأمر على الاستفتاء الشعبي خلال مدة لا تتجاوز (60) يوما فان وافق الشعب بالاستفتاء بأغلبية المصوتين نشر القانون في الجريدة الرسمية للدولة، وان رفض القانون عد كان لم يكن.
ثانياً/ لرئيس الجمهورية طلب حل البرلمان ان أرتكب مخالفة للدستور أو فشل في النهوض بمهامه الدستورية، ويعرض الطلب على المجلس في الاجتماع الأول بعد تقديمه، ويتم التصويت عليه بلا مناقشة بالأغلبية المطلقة، فان رفض طلب رئيس الجمهورية عرض الأمر على الاستفتاء الشعبي خلال (15) يوماً من تاريخ رفض الطلب، وإذا وافق أغلبية المصوتين على الحل أعلن رئيس الجمهورية موعد إجراء الانتخابات الجديدة خلال مدة لا تزيد على (45) يوماً من تاريخ ظهور نتائج الاستفتاء الشعبي)).
3- وضع نص يكمل المادة (76) بإضافة بند يفيد الآتي ((لخمسمائة ألف ناخب عراقي طلب الاستفتاء على سحب الثقة الشعبية من رئيس مجلس الوزراء إن ارتكب مخالفة للدستور أو القوانين النافذة، يلتزم رئيس الجمهورية وبالتنسيق مع المفوضية العليا للانتخابات بتنظيم الاستفتاء خلال (60) من تاريخ تقديمه ويعد الاستفتاء ناجحاً إن وافق عليه الأغلبية المطلقة من الناخبين داخل العراق.
ولخمسين ألف ناخب عراقي طلب إقالة أحد وزراء الحكومة فيعد الوزير مستقيلاً بإتباع ما ورد أعلاه.
لخمسة آلاف ناخب في المحافظة تقديم طلب إقالة المحافظ أو حل مجلس المحافظة إلى رئيس الجمهورية، ويعد المحافظ مقالا أو المجلس منحلاً بنجاح الاستفتاء المحلي في المحافظة بإتباع ما ورد أعلاه)).