يمر العراق ومنذ سنوات خلت بحالة من التغيير الإيجابي على جميع المستويات وفي مقدمها الجوانب السياسية والاجتماعية والثقافية، تكللت بحركة احتجاجية واسعة في أواخر العام 2019 لازالت مستمرة حتى يومنا هذا، وحظيت هذه التحركات بدعم كبير جداً من مختلف الشرائح الاجتماعية والدينية وبعض الفعاليات والجهات السياسية.
ومن إفرازات هذه المرحلة الاحتجاجية حصول تغيير ملحوظ على مستوى الوعي الجماهيري عبرت عنه المطالب الجماهيرية التي عكست أسس جديدة لعلاقة المواطن بالسلطة فالحركة الاحتجاجية لا يمكن اختزالها في خانة رد الفعل تجاه النظام السياسي الفاسد القائم على المحاصصة الحزبية والطائفية المقيتة، بل هي انتفاضة شعبية شاملة هادفة إلى إحداث تغيير جذري في السياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كما وتهدف إلى ترسيخ العدالة الاجتماعية الحقيقية التي من شأنها ان تعيد للمواطن العراقي البسيط الشعور بالأمن على مستقبله ومستقبل بلده.
إن السبب الرئيس للمطالبة بإعادة صياغة العقد الاجتماعي العراقي هو مواجهة المخاطر التي تحدق بالعراق والعراقيين في ظل الواقع المحلي والإقليمي والدولي، والذي تمخض عن تحول العراق إلى ساحة لتصفية الحسابات.
ومما تقدم لابد أن يفكر العراقيون في مصلحتهم وسبل تحقيقها أولاً، وللوصول إلى تلك المصلحة لابد من ترميم الجبهة الداخلية أولاً بعقد اجتماعي ينظم حقوق وحريات العراقيين بلا تمييز لأي سبب كان، فما رافق المرحلة المنصرمة من تمييز وانتقائية في التعامل مع بعض المحافظات والفئات ومجاملة على حساب المال العام والصالح العام، بات اليوم لا يطاق ولا يقبل به أحد، فالحركة الاحتجاجية بحقيقتها إعلان سقوط العقد الاجتماعي السابق القائم على التمييز والعنصرية لأسباب قومية ومذهبية، وإيذان بعقد جديد يقوم على أسس المساواة والعدالة على جميع الأصعدة، والسبب هو الفشل الذريع للطبقة السياسية التي تعاقب شخوصها على حكم العراق منذ العام 2003 ولغاية الآن والمطالبة بطبقة جديدة من المستقلين الوطنيين الأكفاء.
فالأحزاب والأشخاص الحاكمة فقدت ثقة الجمهور وأعلن عن فشلها منذ العام 2011 في قيادة الدولة والسير بسفينتها نحو بر الأمان المتمثل بالتنمية وتحقيق الرفاه الاجتماعي والاقتصادي والاستقرار السياسي فكل ما حصده العراقيون مما سبق هو الفشل والأزمات والحروب والدمار ومزيد من المآسي الإنسانية.
ومن استقراء المرحلة السابقة يمكننا ان نحدد أسباب المشاكل أو على الأقل المشاكل الكبيرة التي اعترضت مسيرة العراق كبلد وانعكست سلباً على الشعب وهي مستقاة بالدرجة الأساس من الخطأ في صياغة الوثيقة الدستورية ومنها:
1- الحالة الأثنية والقومية "المادة 3 من دستور 2005 أرست مبدأ التعدد بالأديان والمذاهب إلا إنها فشلت في وضع الآليات الضامنة للحفاظ على التعدد والتنوع".
2- الحالة اللغوية: والتي تضمنتها المادة (4) من الدستور والتي أوجبت ثنائية اللغة الرسمية والسماح باللغات الأخرى المحلية للأغراض التعليمية ما سبب نوع من عدم الثقة عند الأقليات.
3- حرصت المادة (9) على التأكيد بان القوات المسلحة وقوى الأمن تخضع للقيادة المدنية ولا تستعمل لقمع الشعب ومنع تشكيل المليشيات المسلحة.
4- طريقة توزيع المناصب العليا وتغلغل الطائفية والقومية في تقاسم المناصب العامة والعليا لاسيما على صعيد منصب (الرئاسات الثلاث) و(الكابينة الوزارية) و(رؤساء الهيئات المستقلة) و(الوظائف القيادية والعليا المدنية والعسكرية) فكل ما تقدم جرى توزيعه بشكل يراعي الطوائف ويبتعد عن المهنية والموضوعية والاعتبارات الوطنية.
5- تمثيل النساء والأقليات في البرلمان والمجالس المحلية المنتخبة.
6- النظام الحزبي الغريب والمشوه في العراق إذ تحولت بعض الأحزاب بلجانها الاقتصادية إلى مافيات لجمع الأموال واستثمارها في مجال بسط النفوذ السياسي.
7- التأخر غير المبرر في سن القوانين التي أوجبها الدستور لإستكمال بناء الهيئات العامة ومنها المحكمة الاتحادية العليا ومجلس الاتحاد وتفعيل قانون مجلس الخدمة العامة الاتحادي.
8- التجاهل المتعمد لضمانات حقوق وحريات الإنسان العراقي فلم تسن العديد من القوانين التي لها الأثر البالغ في تنظيم ممارسة الحقوق والحريات ومنها حرية الرأي والتعبير والتظاهر والإعلام ما ترك السلطة التنفيذية ترتع بوحل التعسف والاستبداد عند التعامل مع الأفراد بداعي الحفاظ على الأمن أو عدم الحصول على الترخيص وما شاكل ذلك من الذرائع.
ولهذه الأسباب نحن بحاجة لصياغة عقد اجتماعي عراقي جديد لكون الفئات الاجتماعية العراقية جميعاً على المستوى الشعبي لازالت تحمل في أذهانها معاني الحب والإخاء وأثبتت الأزمات الأمنية التي مررنا بها ان الأخوة العراقية غير قابلة للشك والتكاتف لدفع المخاطر ديدن العراقيين، أما الطبقة السياسية فقد تآكلت شرعية بقائها أو اشتراكها في السلطة لكونها ارتكبت أشنع الفظائع بحق الاقتصاد والمجتمع والثقافة العراقية وطمست معالم الدولة الموحدة المستقرة والمجتمع المتحضر الموحد وسعت إلى دق إسفين الفرقة على أسس الطائفة والقومية، مستغلة في ذلك إمكانيات الدولة وأموالها العامة عبر خطاب معسول تسبب بمزيد من الدمار، فالدستور لم يعد يعبر عن ضمير الأمة ولم يعد صالحاً للاستمرار بصورته الحالية كونه يعزز مؤسسات الدولة ويؤكد على وظيفته الأساسية في خدمة الفرد، بيد أنه لم يتضمن من الضمانات ما يكفي لوضع القاطرة على السكة أي تسخير المؤسسات وعناصرها المادية والبشرية لخدمة المجتمع ومصالحه فحصل الانحراف باتجاه تكريس ما تقدم لخدمة بعض الشخوص والأحزاب ممن راحوا يغدقون على بعض الفئات قبال حرمان فئات كبيرة عانت الأمرين من شظف العيش وبطش الفئات الضالة من الإرهابيين والمنحرفين والمتشددين، فكان العنوان الكبير لتلك المرحلة انقسام المجتمع العراقي إلى فئتين فئة الطبقة السياسية والبرجوازية المستفيدة منها وفئة عامة الشعب ممن يعيشون على الهامش وهم ينظرون إلى الفئة الأولى ويعلمون انها سبب مآسيهم، فكان ولابد من عقد ينظم العلاقة بين العراقيين من جديد.
عقد يتمحور على الآتي:
أ- الإنسان العراقي محور وغاية وليس مجرد وسيلة لتحقيق غايات وأطماع وضحية أيدلوجيات أو أفكار بالية حولت أحلام العراقيين بالحياة الحرة الكريمة إلى محض سراب.
ب- حقوق وحريات الشعب هي المضمون الحقيقي للعقد الاجتماعي الجديد لتحقيق الأمن الاجتماعي والاقتصادي للأفراد.
ج- الشعب والشعب فقط من يقرر شكل الدولة ونظام الحكم فيها وآليات وصول النخبة الحاكمة للسلطة وكيفية ممارستها للعمل باسم الشعب ونيابة عنه.
د- ترتيب العلاقة بين أبناء الشعب العراقي بنحو قانوني بصيغة عقد اجتماعي ملزم يؤطر للعلاقة بين الفرد والفرد الأخر على وفق أسس يرتضيها الجميع لتكريس حالة الرضا الشعبي بالحياة المشتركة، وينتج عن هذا العقد أثار تتمثل بصياغة دستور جديد أو تعديل الدستور القائم على نحو يمنح الجميع الحق المتكافئ في الحياة الحرة الكريمة بدون أي استثناء ولأي سبب كان.
على أن يضع العقد المزمع أسس العلاقة بالسلطة الحاكمة بما يضمن توجهها نحو الخدمة العامة لا الخدمة الفئوية بإصلاح النظام الحزبي والانتخابي والسياسي عموماً. والتركيز في صياغة العقد الجديد على تحقيق مبدأ الديمقراطية التشاركية بين الحاكم والمحكوم فالأخيرة أداة حاسمة للتحول الثقافي والسياسي ويشعر المواطن ان المرافق العامة ملك للمجتمع ككل وان الخدمات العامة رهن بصيانة هذه المرافق العامة، وما الحاكم إلا مدير أو مدبر لهذه المرافق فلا يصار إلى الإساءة إليها عندما تثور ثائرة الشعب في التظاهرات أو الاعتصامات الشعبية المطلبية.
ومما تقدم نعتقد ان الأسس التي ينبغي ان يقوم عليها العقد الجديد هي:
التصالح مع الذات والمضي قدما في طريق الإصلاح والذي يبدأ من القمة أي من السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية بإعادة هيكلتها بالشكل الذي يتفق مع أمال العراقيين بسلطات وطنية منبثقة عن إرادة جماهيرية حقيقية وفق دستور نابع من ضمير أبناء الشعب، بما ان الدستور قانون وبالتالي هو انعكاس لمصالح المجتمع وتصوير تشريعي لسبيل إشباعها وهي التي من شأنها التبدل بمرور الزمان واختلاف الحاجات فلابد من وقفة مع إعادة للنصوص بما يحقق التلاؤم بين المعطيات الحالية وهي:
أ- إصلاح النظام التمثيلي باعتماد التمثيل الفردي والدوائر الصغيرة على ان تبنى العلاقة بين النائب والناخب على أساس التأثير المتبادل والعلاقة الدائمة القائمة على التساند والتشاور والرقابة الشعبية التي تلي التقييم لأداء النائب وإمكانية إقالته شعبياً ان فشل في تمثيل الآمال وانصرف لتحقيق المصالح الحزبية أو الشخصية.
ب- إصلاح النظام التشريعي بتأسيس مجلس الاتحاد والنص على طريقة تشكيله بالانتخاب المباشر من قبل الجمهور في الدستور نفسه وتحديد اختصاصات حقيقية من شأنها ان تمنع انفراد مجلس النواب بالسلطة التشريعية وإساءته لهذه السلطة.
ت- إصلاح الرقابة على الحكومة بتفعيل الرقابة الشعبية المباشرة عليها ومنها إمكانية الطلب من البرلمان سحب الثقة من الحكومة بطلب يوقع من عدد محدد من الناخبين.
ث- التركيز على ضمان استقلالية الهيئات المستقلة بشكل حقيقي وجاد بما يضمن النهوض بوظيفتها الرقابية والتنظيمية للقضاء على آفة الفساد في البلاد.
ج- بث الضمانات الدستورية والقانونية التي تؤمن حياد القوات المسلحة وبناءها وفق أسس مهنية بعيدة كل البعد عن التجاذبات والعمل الحزبي الذي من شأنه ان يحرفها عن وظيفتها لتستعمل كأداة للترويع والقمع.
فوظائف الدولة في العراق ينبغي أن تحدد بشكل مباشر وواضح تأثراً بفلسفة وطنية عراقية بحته همها الوطن الواحد الموحد والشعب الحر.
واستكمالاً للمعطيات أعلاه ينبغي التركيز في صياغة العد الجديد على مضامين أساسية ينبغي الالتفات إليها وهي:
1- العلاقة بين الدولة والاقتصاد للخروج من حالة الاقتصاد المشوه والاتجاه نحو بناء اقتصاد وطني حديث قائم على تنوع الموارد والاستثمار الأفضل للثروات والاستفادة القصوى من العنصر البشري للقضاء على الفقر بضرورة القضاء على البطالة.
2- تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع لبيان آليات تنظيم الأسرة بشكل يمنع تفتتها بسياسة إعانة الفقراء وتهذيب العادات والتقاليد العشائرية المنحرفة وهي التي من شأنها امتهان المرأة والطفل وتحقيق الانتقال نحو مجتمع مدني تتكامل فيه المجهودات الفردية للمثقفين والمتعلمين مع المنظمات غير الحكومية والمراكز البحثية لتحقيق التعايش السلمي.
3- تنظيم العلاقة بين الدولة والثقافة العراقية بالنص صراحة على حياد الثقافة والتنوع الثقافي كونه عامل قوة للشعب والدولة ويسهم في التقريب بين الفئات جميعاً حين يشعر الآخرون ان السلطة لا تهدد ثقافتهم أو هوياتهم الفرعية.