الغش عبارة عن سلوك لا أخلاقي، وغير تربوي، ينم عن شخصية غير سوية، وغير ناضجة تتصف بالخوف، والقلق، والعجز، والسلبية، والتواكل، سواء ما يحصل في المجال السياسي، والصناعي والتجاري، والتربوي والتعليمي، والصحي.
في اللغة يقال: َغَشّهُ يَغُشُّهُ غَشًا، أي أن يُظهر للشخص خلاف ما أضمره. ويأتي (الغش) في اللغة على عدة معان، كلها تدور حول معنى واحد، وهو الخداع. وقد قيل: ما هم إلا قوم غشاشة أيديهم بالخيانة رشاشة، أي أنهم مخادعون كثرت منهم الخيانة.
وفي الاصطلاح؛ يٌعرف (الغش) أنه (إخفاء عيب، أو ظهار غير الحق، أو نيل شيء دون وجه حق. أو هو تزوير في أمانة ما مثل الكذب والسرقة وخيانة الأمانة، أو نسبة شيء لا يخصه لنفسه مثل السرقة الأدبية) وعٌرف أيضا أنه (سبل وأسـاليب الخـداع والكذب في عـرض المواصفات والصفات، وما في حكم ذلك، بمـا يختلـف عن الحقيقـة والواقع، وبمعنى آخر عرض وتقديم الباطل في صورة الحق)
وفي تعريف ثالث هو (إحدى الظواهر المُنحرِفة، والتي تظهر في المُجتمَع، وهي تدلُّ على الخروج عن قِيَم ومعايير الشرع؛ ممّا يترك أثراً سلبيّاً على مظاهر الحياة الاجتماعيّة.) ولا يتحقّق الغش إلاّ بعلم الغاش وجهل المغشوش، فإذا كان كلاهما عالمين بالواقع، أو جاهلين به، أو كان الغاشّ جاهلا والمغشوش عالماً انتفى مفهوم الغشّ.
وفي الواقع؛ أن مفهوم الغش يتداخل كثيرا مع مفاهيم أخرى، تقربه من المعنى المقصود منه، مثل مفهوم (الكذب) الذي هو الإخبار عن الشيء بخلاف الواقع، وليس الإخبار مقصورًا على القول، بل قد يكون بالفعل، كالإشارة باليد، أو هز الرأس، وقد يكون بالسكوت. ومثل مفهوم (الخداع) وهو كلّ تصرف من شأنه إيهام الطرف الأخر أن السلعة أو الخدمة تحمل صفات جيدة، وهي في الواقع ليس فيها.
ومثل مفهوم (النصب) وهو الاستيلاء عن طريق الاحتيال على منقول مملوك للغير بغية تملّكه عن طريق خداع المجني عليه. ومثل مفهوم (التزوير) وهو إظهار الكذب بمظهر الحقيقة، بقصد غش الغير. ومثل مفهوم (التزييف) هو إظهار شيء من معدن أو أوراق النقود أو السندات أو طلائها بطلاء يجعلها شبيه بنقود أو سندات أخرى أكثر منها قيمة. ومثل مفهوم (التقليد) وهو (صنع شيء كاذب يشبه شيئا صحيحا) أو هو محاكاة منتج ما (سلعة أو خدمة) بصنع منتج آخر شديد الشبه به بحيث يبدو كالأصل عند تسويقه، ويوقع الخلط والتضليل لدى المستهلكين العاديين.
لا ينحصر الغش في صور محددة؛ بل يمكن أن يتحقق في كل معاملة ينشئها طرف مع طرف آخر، بهدف تحقيق فوائد غير قانونية أو غير شرعية، أو غير أخلاقية، ونتحدث في هذا المقال عن أربع صور من صور الغش الأكثر انتشار، والأكثر تأثيرا في المجتمع، وهي: الغش السياسي، والغش التجاري أو الصناعي، والغش التعليمي أو التربوي: والغش الصحي أو الدوائي.
1. الغش السياسي: يعد الغش السياسي من أنواع الغش الأكثر شيوعا في العالم، وله تأثير مباشر على حقوق الناس كلها، بل الحقوق تعطى وتسلب على أساس ما ينبغي تحقيقه من برامج سياسية؛ ووعود انتخابية. والغش السياسي يقوم على قاعدة (إن الغاية تبرر الوسيلة) أو (الغاية تسوغ الواسطة) فتظهر الأحزاب السياسية شيئا وتخفي أشياء كثيرة، وتقول شيئا وتسكت عن أشياء أخرى، وكل ما لديها صواب، وكل ما لدى الآخرين خطأ. وعلى أساس ذلك توهم الناس وتظللهم عن معرفة الحقيقة، فلا يهتدون إلى الحقائق إلا القليل منهم.
ومن الأمثلة على ذلك ما تتبناه الأحزاب السياسية من أفكار وبرامج إنسانية واقتصادية وتنموية، تٌمني الناس بتحقيقها، إذا ما ساعدوها للوصول إليها. فاذا ما وصلت إلى مقاليد الحكم، وحكمت سيطرتها على السلطة تنكرت لتلك الأفكار والبرامج والوعود، وعدلت فيها وغيرت حتى كأنها لم تكن من ذي قبل.
ولعل الغش السياسي أو (الكذب السياسي) يظهر في أفضل تجلياته في الانتخابات، مثل ما نراه من حال من يتقدمون لترشيح أنفسهم للمجالس المحلية أو البرلمانية او الرئاسية، فترى الواحد من هؤلاء يسعى لكسب المؤيدين، واستقطاب الأصوات؛ ليفوز بالانتخابات، ويتربع على كرسي الحكم، فتراه يسلك في ذلك السبيل ألوانًا من الزيف والكذب والخداع، وتخدير الشعوب بالأماني الباطلة، والوعود المعسولة الكاذبة. ولكن ما أن يضع قدمه في أول سلم السلطة حتى يتنكر لمن أيده، وينقلب عليهم، فينسى وعوده، ويستحوذ على المقدرات، ويتلاعب بالثروات، كأنها نهب منهوب، ويسوم الشعوب سوء العذاب.
2. الغش التجاري أو الصناعي: وهو (أ- كل منتج دخل عليه تغيير أو عٌبث به بصورة ما مما أفقده شيئا من قيمته المادية أو المعنوية، سواء كان ذلك بالإضافة أو بالإنقاص أو بالتصنيع أو بغير ذلك، في ذاته أو طبيعته أو جنسه أو نوعه أو شكله أو عناصره أو صفاته أو متطلباته أو خصائصه أو مصدره أو قدره، سواء في الوزن، أو الكيل، أو المقاس، أو العدد، أو الطاقة، أو العيار. ب–كل منتج غير مطابق للمواصفات القياسية المعتمدة. ج–المنتج الفاسد: كل منتج لم يعد صالحا للاستغلال أو الاستعمال أو الاستهلاك)
وعليه، فكما أن حقوق الناس تتقوم بالسياسة الصحيحة البعيدة عن الغش والكذب والخداع، فأنها تتقوم أيضا بالاقتصاد والتجارة الصحيحتين، وكلما ألتزم التجار جانب الصدق في المعاملات التجارية نال الناس حقوقهم الاقتصادية، وحصلوا على حاجاتهم من طعام وشراب وملبس بيسر وسهولة، وكلما غش التجار الناس في السلع والثمن فقد الناس أمنهم الغذائي والصحي.
وينقسم الغش التجاري والصناعي هنا إلى ثلاثة أنواع: زراعي وصناعي وتجاري، فأما الغش الزراعي: فهو الأفعال التي يقوم بها المزارعون لتكثير محاصيلهم أو تسريع حصادها، أو إظهارها بشكل يرغبه الناس، وذلك باستعمال مبيدات حشرية وأسمدة على وجه غير مشروع كونها محظورة الاستعمال، أو تستعمل وفق موازين ومقاييس محددة يتم تجاوزها.
وأما الغش الصناعي: فهو كل غش متعلق بتصنيع المواد الغذائية، من خلال نزع عناصر أساسية بشكل كلي أو جزئي يجب دخولها في تركيبها، وعرض الناتج الجديد بنفس الاسم، مثل نزع القشطة من اللبن أو من خلال إضافة عناصر إليها، لكونها أقل جودة، كخلط الرديء بالجيد في القمح والأرز، أو من خلال إضفاء ما يحسن صورتها لدى المستهلك لها كالأصباغ والعمليات التجارية والمغلفات التي فيها خداع للمستهلك أو تأثير على المادة الغذائية. وأما الغش التجاري: فهو كل تصرف يقصد به بيع مادة غذائية بوسيلة فيها خداع وإلحاق ضرر، بمن يسعى إلى تملكها أو استهلاكها.
3. الغش العلمي أو الغش التربوي: يعني الغش في الاصطلاح التربوي (عملية تزييف النتائج المتعلقة بالتقويم، أو محاولة من الطالب لأخذ إجابة الأسئلة بطرق غير مشروعة) وفي تعريف ثان (هي عملية يقوم بها الطالب لنقل إجابة أسئلة الامتحان بطرقة غير شرعية سواء بالنقل من زميله، أو من ورقة معدة مسبقا، أو باستخدام آلة، وهي تتعارض مع ما تسعى الفلسفة التربوية إلى تحقيقه).
وفي الواقع؛ أن ظاهرة الغش في الامتحان هي ظاهرة موجودة لدى تلاميذ وطالب المدارس والجامعات، وفي داخل المؤسسات التعليمية والتربوية وخارجها، بما فيها المؤسسات الدينية، وبشكل فردي وجماعي، ولدى الصغار والكبار الذكور والإناث. وتشير الدراسات التربوية والنفسية إلى أن هذه الظاهرة انتشرت لدى التلاميذ والطالب العادين في دراستهم، وحتى لدى بعض المتفوقين من الطلبة، وكذلك انتشرت هذه الظاهرة لدى الطالب ضعاف التحصيل الدراسي، والذين يعانون من صعوبات في مجال التعليم، مع الأخذ في عين الاعتبار الاختلاف النسبي في انتشار ظاهرة الغش لدى هذه الفئات المختلف.
والحقيقة أن انتشار ظاهرة الغش التربوي أو التعليمي في مؤسستنا التربوية والتعلمية كافة، لا يعني أن الطالب هو المسؤول الوحيد عن هذه الظاهرة وتفشيها بين أفراد المجتمع. فالغش لا يظهر فجأة بين عشية وضحاها، إنما تراكم خبرات، وتشجيع أو تساهل من جهة أو أكثر كالأقران وولي الأمر والمعلم وغيرهم. فكثير من المعلمين يساهمون بحدوث هذه الظاهرة التعليمية الخطيرة بشكل مباشر من خلال أخذ الرشى من الطالب أو من ذويه، أو من خلال محاباة بعض الطلبة على حساب الطلبة الآخرين لاعتبارات اجتماعية، أو بشكل غير مباشر من السكوت أو الإهمال وعدم محاسبة من يقومون بالغش، كما يمارس الأهالي الدور ذاته من خلال مساعدة أبناءهم على الغش بالاستعانة بالمعلمين، والحصول على الأسئلة منهم، أو مشاركتهم وسائل الغش كما يحدث في الغش الالكتروني.
وواضح أن للغش التربوي والتعليمي خطورة على مناحي الحياة كافة، سواء على مستوى الفرد أو مستوى الجماعة، وعلى مستوى إدارة الدولة، حيث إن الفرد الذي يمارس الغش في الامتحانات قد يجد نفسه يمارس الغش في النشاطات الاجتماعية والوظيفية والإدارية الأخرى، ويعلم الآخرين ويساعدهم على ارتكابه، وكأنه فعل عادي غير مستهجن، بينما هو في حقيقته جريمة بحق التربية والتعليم والمجتمع.
4. الغش الصحي أو الدوائي: إن منظمة الصحة العالمية (WHO) تعرف الدواء المغشوش أنه (الدواء الذي يتم تحضيره باستعمال الغش المتعمد بالنسبة إلى هويته ومصدره) وفي تعرف ثان (هو الدواء الذي لا تتطابق مكوناته وطريقة تحضيره المواصفات القياسية المتفق عليها عالميا، وبالتالي يصبح هذا الدواء المغشوش غير فعال في علاج الأمراض وفي نفس الوقت يتسبب في إلحاق أعظم الضرر على المريض.)
إن تصنيع وبيع الأدوية المغشوشة هو ظاهرة خطيرة آخذة بالانتشار، سنة بعد سنة، وتطال في تأثيرها مختلف دول العالم المتقدمة منها والنامية. وتقدر منظمة الصحة العالمية أن مقدار انتشار الأدوية المغشوشة يتراوح بين أقل من 1% في البلدان المتطورة وإلى أكثر من 30% في بعض البلدان النامية، وتصل في أفريقيا وأمريكا اللاتينية إلى نحو 50% من إجمالي سوق الدواء فيها.
وتصنف منظمة الصحة العالمية الأدوية المغشوشة إلى عدة أنواع أبرزها: أدوية كاذبة (بدون المكونات الدوائية الفعالة) وأدوية مستنسخة (بمقادير غير كافة من المواد الفعالة) وأدوية فاسدة (منتهية الصلاحية) وأدوية محظورة (ثبتت خطورتها وتم منع تداولها) وأدوية مقلدة (ذات أغلفة مزورة) وأدوية مزورة (تابع على إنها نباتات طبيعة) وأخيرا أدوية مهربة.
ولا شك أن الدواء هو أحد أهم المنتجات التي لا غنى للأفراد عنها في أي مجتمع، وفي أي عصر، ولا مبالغة في القول إنه من أكثر المنتجات التي تمثل خطورة على صحة الإنسان نظرا لما يحدثه من آثار ضارة قد تصل إلى الموت إذا لم يراع ضوابط تصنيعه وتداوله.
ومما تقدم من حديث في مجال الغش أو نحوه من الظواهر الاجتماعية السلبية، نصل إلى النتائج الآتية:
- أجمع الباحثون في مجال الغش أو نحوه من أعمال وظواهر اجتماعية سلبية على أن الغش عبارة عن سلوك لا أخلاقي، وغير تربوي، ينم عن شخصية غير سوية، وغير ناضجة تتصف بالخوف، والقلق، والعجز، والسلبية، والتواكل.
- سواء ما يحصل في المجال السياسي، والصناعي والتجاري، والتربوي والتعليمي، والصحي أو نحوه؛ غشا كان أم كذبا، خداعا كان أم نصبا، تزويرا كان أم تزيفا أم تقليدا؛ فكلها أعمال مرفوضة اجتماعيا؛ وأخلاقيا؛ ومحرمة دينيا، على أي نحو كان، سواء أكان في البيع والتجارة، أم في العلم والمعاملات. وقد اهتم الشرع ببيان أضرار مثل هذه السلوكيات المنحرفة ومحاربتها، مُحذراً من اتخاذها سبيلاً ينال بها الإنسان حقاً ليس له، أو لإشاعة الفساد بين الناس، وأكل أموالهم بالباطل. فقد جاء في القرآن الكريم وقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وقال الرسول (ص) في حديث له: (من غشنا فليس منّا).
- إنّ الغش والخيانة لهما آثار ضارة وخطيرة تَطَال الفرد نفسه، فهما يجعلان صاحبهما في خسارة في الدنيا والآخرة، علاوة على التعاسة النفسية التي يعانيها، حيث يعيش بين الخوف من الجُرم الذي فعله ويفعله والعذاب الذي ينتظره، كما يشعر أن ما حصل عليه من مال وجاهٍ ليس بجهد المخلص الأمين، إنما جاء بخيانة وغش.
- كما أن للغش والخيانة آثار ضارة على مستوى المجتمع والأمة ككل، فإن الغش خيانة للأمانة، وضياع للأمّة، وسبب لإضعاف الثقة بين الناس، لِمَا يترتب عليه من خداع وظلم يطال الآخرين، وذلك بالتعدي عليهم بغير حق.