يعد الاستفتاء الشعبي أحد صور السيادة الشعبية وطريق لممارسة السلطة الشعبية، وهو مظهر من مظاهر الديمقراطية شبه المباشرة، إذ يقوم الشعب بأخذ زمام المبادرة والتصدي للشأن العام مباشرة فيعبر عن رأيه في مسألة تشريعية أو تنفيذية أو غيرها، حيث يكيف على أنه تصدي السلطة التأسيسية الأصلية أي الشعب والمالك الحقيقي للسلطة بنفسه للحالات الخطيرة أو المهمة ليقرر ما ينبغي عمله محل السلطة التي انتخبها، أو إذن بتكوينها وممارستها للسلطة نيابة عنه، وفي الوقت عينه هو إجراء استثنائي في ظل الأنظمة الديمقراطية التي تعتمد الديمقراطية النيابية.
والثابت أن الاستفتاء لا يؤدي بالضرورة إلى إلغاء البرلمان أو المجلس الوزاري أو دور أي سلطة عامة أخرى، بل هو مكمل لعملها وبخاصة في المواطن والحالات الاستثنائية، ومن شأنه ان يحقق حالة من التوازن بين الشعب والسلطات الحاكمة، ويمنع احتكار سلطة التقرير من قبل الأخيرة، كما يحول ما تقدم دون الاستبداد، ويحدث ان السلطة الحاكمة والأحزاب المساهمة في السلطة تتردد في كثير من الأحيان حيال أمر معين فتستصرخ الشعب ليقول كلمته في القضايا المصيرية التي لا تريد تلك الجهات ان تتحمل وزرها السياسي، فتلقي بالكرة في ملعب الشعب ليقرر بنفسه.
وتنامي الوعي السياسي لأبناء الشعب العراقي وتكريس الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة في البلد يحتم علينا التساؤل عن إمكانية اللجوء إلى الشعب ليقرر بحرية في بعض الأحيان بعض القرارات التي تتصل بتكوين السلطات العامة؟
كما ان السلبيات التي أفرزتها الديمقراطية النيابية في العراق ساعدت على تنامي الوعي الشعبي بضرورة التصدي للانحراف عن إرادة الشعب، ولهذا نجد إن المواطنين استعملوا الحق في التعبير عن الرأي والرفض المباشر للسياسات العامة أو محاولات البرلمان تمرير قوانين أو قرارات معينة ولا مانع يمنع المواطن من ان يتوسع في التعبير عن إرادته تارة بالانتخاب واختيار الممثلين عنه في البرلمان، وتارة في الاستفتاء الشعبي لاسيما أن أخذنا بنظر الاعتبار ان الدستور العراقي قبل أسلوب الاستفتاء ونص عليه في موارد عدة منها:
1- اختيار لغة معينة كلغة رسمية محلية فقد نص البند الخامس من المادة (4) على أن ((لكل إقليم أو محافظة اتخاذ أية لغة محلية أخرى لغةً رسمية إضافية إذا أقرت غالبية سكانها ذلك باستفتاء عام)).
2- طلب تكوين إقليم حيث ورد في المادة (119) ما نصه ((يحق لكل محافظة أو أكثر تكوين إقليم بناءً على طلب بالاستفتاء عليه، يقدم بإحدى طريقتين: أولاً: طلب من ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الإقليم.// ثانياً: طلب من عُشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليم))والنص المتقدم منح الشعب الحق بتقديم مقترح وهو أحد تطبيقات الديمقراطية شبه المباشرة التي تتيح للشعب التقدم بالمقترحات العامة أو مقترحات تشريعات معينة وما شاكل ذلك.
3- في موطن آخر منح الدستور العراقي المواطن الحق في الاستفتاء بالموافقة أو الرفض لمشروع تعديل الدستور إذ تنص المادة (126/ثانيا) على الآتي: ((لا يجوز تعديل المبادئ الأساسية الواردة في الباب الأول والحقوق والحريات الواردة في الباب الثاني من الدستور، إلا بعد دورتين انتخابيتين متعاقبتين، وبناء على موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب عليه، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام ومصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة أيام)).
وأضاف البند (ثالثاً) أنه ((لا يجوز تعديل المواد الأخرى غير المنصوص عليها في البند (ثانيا) من هذه المادة إلا بعد موافقة ثلثي أعضاء مجلس النواب عليه، وموافقة الشعب بالاستفتاء العام، ومصادقة رئيس الجمهورية خلال سبعة أيام)).
وسمح البند الرابع من المادة (126) بالاستفتاءات المحلية التي تكون على مستوى محافظة معينة أو إقليم محدد وورد النص بالصياغة الآتية ((لا يجوز إجراء أي تعديل على مواد الدستور من شأنه أن ينتقص من صلاحيات الأقاليم التي لا تكون داخلة ضمن الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية إلا بموافقة السلطة التشريعية في الإقليم المعني وموافقة أغلبية سكانه باستفتاء عام)).
4- وحددت المادة (131) شرط نجاح الاستفتاء بأنه ((كل استفتاء وارد في هذا الدستور يكون ناجحا بموافقة أغلبية المصوتين ما لم ينص على خلاف ذلك)).
5- كما ان حل قضية محافظة كركوك والمناطق الأخرى عهد بها الدستور إلى الاستفتاء الشعبي حيث ورد النص في البند الثاني من المادة (140) على أنه ((المسؤولية الملقاة على السلطة التنفيذية في الحكومة الانتقالية والمنصوص عليها في المادة (58) من قانون إدارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية تمتد وتستمر إلى السلطة التنفيذية المنتخبة بموجب هذا الدستور على أن تنجز كاملة التطبيع، الإحصاء، وتنتهي باستفتاء في كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها لتحديد إرادة مواطنيها في مدة أقصاها الحادي والثلاثون من شهر كانون الأول سنة ألفين وسبعة)).
6- وفي مورد أخر سمح الدستور في المادة (142) بإجراء مراجعة لنصوص الدستور حيث حدد البند الأول ضرورة تشكيل مجلس النواب في بداية عمله أي في الدورة الأولى لجنة من أعضائه تكون ممثلة للمكونات الرئيسة في المجتمع العراقي لتقدم تقرير خلال مدة لا تتجاوز أربعة أشهر يتضمن التوصية بالتعديلات الضرورية التي يمكن إجراؤها على الدستور لتعرض التعديلات المقترحة من قبل اللجنة دفعة واحدة على مجلس النواب للتصويت عليها، وتعد مقرة بموافقة الأغلبية المطلقة لعدد أعضاء المجلس، ثم لتطرح المواد المعدلة من قبل مجلس النواب، على الشعب للاستفتاء عليها خلال مدة لا تزيد على شهرين من تاريخ إقرار التعديل في مجلس النواب، ويكون الاستفتاء على المواد المعدلة ناجحاً بموافقة أغلبية المصوتين، وإذا لم يرفضه ثلثا المصوتين في ثلاث محافظات أو أكثر)).
7- كما ان المادة (144) ألزمت لنفاذ الدستور موافقة الشعب عليه حيث ورد النص بأن ((يعد هذا الدستور نافذاً بعد موافقة الشعب عليه بالاستفتاء العام ونشره في الجريدة الرسمية وتشكيل الحكومة بموجبه)).
وبالنظر لكثرة النصوص المتقدمة التي وضعت وحددت آليات ممارسة الشعب السيد لسلطته بشكل مباشر، نتساءل ألا يمكن التوسع بهذا التطبيق الديمقراطي في تكوين بعض السلطات العامة المهمة كالمفوضية العليا المستقلة للانتخابات أو مجلس الخدمة الاتحادي أو اختيار رئيس هيئة النزاهة وغير تلك الجهات ذات الطبيعة الخاصة، وبالتحديد مفوضية الانتخابات لما رافق عملها ومنذ انبثاقها العام 2004 من شكوك تحوم حول أعضاء مجلس المفوضين فيها وطريقة اختيارهم في البرلمان العراقي التي ترسخ المحاصصة الطائفية والحزبية، فكانت سبباً مباشراً في ضعف ثقة المواطن بالانتخابات ونتج عن ذلك عزوف فئة كبيرة من الجماهير عن ممارسة حقها في اختيار الممثلين في البرلمان العراقي.
وفي الوقت ذاته نود التأكيد ان الاستفتاء بحد ذاته ليس الغاية بل هو الوسيلة فحسب فالغاية أشراك الشعب في سلطة اتخاذ القرار بشكل عملي وواقعي ولا يتحقق ما تقدم ما لم يكن أفراد الشعب على علم يقيني بالقانون أو الاقتراح أو السياسة العامة المراد استفتاءه حولها أو الشخص المراد الاستفتاء على اختياره لشغل منصب عام، فان تمكنت الأحزاب القابضة على السلطة وأجهزة السلطة العامة بكل مستوياتها من ان تدفع الناس للمساهمة بلا إدراك لخطورة الأمر وعواقبه المستقبلية على المصلحة العامة فهذا سيكون أخطر من عدم طرح الفكرة على الشعب لهذا يشترط قبل اللجوء إلى الاستفتاء توافر ما يأتي:
1- أن يكون الشعب قد وصل إلى درجة مقبولة من الوعي بالمصالح الوطنية والنضج السياسي والقانوني بما يمكنه من حسن الاختيار بعيداً عن التأثيرات التي تحاول ان تنحرف بإرادته لأسباب دينية أو قومية أو غيرها.
2- أن يكون الأفراد على علم تام بما يطرح عليهم بالاستفتاء وهنا يكون على الجهة التي تقوم بالاستفتاء والأجهزة الداعمة لسيادة القانون أو المهتمة بترسيخ الديمقراطية كمنظمات المجتمع المدني مسؤولة عقد الندوات والورش والحلقات التي من شأنها تبصير الناس بسلبيات وإيجابيات ما هم مقدمين عليه ثم ليترك الخيار لهم ليختاروا ما يشاؤون.
3- أن يسبق الاستفتاء عمليا إجراءات موضوعية تمكن جميع الأفراد في كل الوطن وخارجه من الاشتراك بفاعلية في الاستفتاء الشعبي.
وعلى العموم علينا جميعاً فيما بعد التسليم وقبول إرادة الشعب كون نتيجة الاستفتاء تمثل رأي الأغلبية، وبالنتيجة ليكون الاستفتاء ناجحاً وناجعاً لابد أن لا تكون نتائجه مضرة بمصلحة الأقليات التي ستشعر بالظلم مستقبلاً، كما ينبغي ان تكون إرادة الناخب سليمة خالية من كل صور التأثير غير المشروع (كالإكراه المادي أو المعنوي، والتدليس، والغلط المؤثر وغير ما تقدم).
وللاستفتاء أنواع فقد يكون موضوعه تشريعياً ان انصب على مقترح قانون وقد يكون دستورياً ان تعلق بإقرار الوثيقة الدستورية أو تعديلها وقد يكون سياسياً ان تعلق بالسياسة العامة للدولة وخيارات الحكومة أو يكون شخصياً ان تعلق بشخص الحاكم أو أشخاص في الحكومة ذاتها، وما أضافه الدستور العراقي من أنواع تتعلق باختيار لغة محلية أو الاستفتاء على تكوين الإقليم أو الانضمام إلى إقليم.
ومما لاشك فيه ان الاستفتاء سيجعل الموضوع الذي حاز على موافقة الشعب ملزماً للسلطات العامة كافة وحائزاً على احترم المجتمع الدولي ممثلاً بالمنظمات العالمية كالأمم المتحدة أو الإقليمية كجامعة الدول العربية أو الدول الأخرى الإقليمية أو غيرها، وهو يمثل إقرار بحق المواطن في التأثير في الشأن العام وأخيراً نشير إلى ان العراق في عهد النظام البائد شهد تطبيقاً يشبه الاستفتاء على شخص الدكتاتور استحدث في العام 1995 بتعديل أقره مجلس قيادة الثورة المنحل للمادة (57 مكررة) والتي جرى نصها باستفتاء الشعب العراقي كل سبع سنوات على شخص الدكتاتور وجرى تطبيقاً للنص استفتاءين أحدهما العام 1995 والأخر العام 2002، وحقيقة الأمر أن هذا التطبيق تسميته الصحيحة هي "الإسترآس" أو طلب الرئاسة وما الرجوع إلى الشعب إلا إجراء شكلي وغير حقيقي وقد سبق دكتاتور العراق إلى هذا التطبيق رؤوس الدكتاتورية في العالم أمثال هتلر ولويس ونابليون فهذا الإجراء ما هو إلا الطلب من الشعب على التصويت (بنعم أو لا) لخيار واحد مع وجود سيف مسلط على من يقول كلمة (كلا) ما يجعل المواطنين أمام خيار واحد فقط، هو الموافقة فحسب فهو محاولة لإضفاء نوع من الشرعية الشعبية على حكم الحاكم المستبد، ويتميز هذا النظام المنحرف بعدة مميزات من أهمها:
1- انعدام المنافسين لشخص الدكتاتور: ففي العراق لم نجد أي تنافس حقيقي مع شخص الدكتاتور في ظل نفاذ دستور 1970 وان وجد المنافسون فهم في الحقيقة لا يكونوا أحراراً، بل هم مسيرون والغرض من زجهم هو إضفاء نوع من الشرعية على الاستفتاء الشخصي أو الإسترآس وهذا ما وجد في الدستور المصري الملغى لعام 1971 الذي كان ينص على الاستفتاء على شخص الرئيس لغاية تعديله عام 2005 عندما عدلت المادة (76) آنذاك واستبدل الإستفتاء بالانتخاب.
2- شخص المستفتى عليه: فهو يدعي انه شخصية خارقة للعادة ثوري مصلح ذو نظرة وخبرة ثاقبة بل هو ضرورة ليحيى الشعب.
3- تدخل الحزب الأوحد أو الحزب الحاكم لصالح الاستفتاء على الرئاسة فلا مناص من تأثير الحزب القابض على السلطة أو الحزب الحاكم الوحيد في الساحة كحزب البعث المحظور لمصلحة الدكتاتور لإنجاز المسرحية السياسية بأجلى صور الضحك على الذقون.
4- نتيجة التصويت التي تلامس نسبة الـ100% ففي العراق ظهرت في إحدى المرات ان النتيجة هي 99.5%.
ويماثل نظام الإسترآس نظام البيعة الجبرية التي ظهرت في عهد الدولة الأموية والعباسية والتي كان الحاكم فيها يفرض نفسه ومن يختاره ليخلفه في كرسي السلطة على الشعب ومن يأبى ذلك يكون مصيره القتل والتنكيل وهذا ما شهدناه جلياً في واقعة كربلاء حين رفض الأمام الحسين عليه السلام هذا المبدأ الفاسد في تولي السلطة فكان مصيره القتل والتنكيل والسبي لعياله.
ومما تقدم نجد أن الفرصة سانحة في العراق ليتبنى البرلمان العراقي تعديلاً للقوانين الخاصة بالهيئات المستقلة على أقل تقدير ليتم اختيار أعضاؤها بالاستفتاء على من أختارهم البرلمان وبهذا نبتعد عن المعنى المنحرف أعلاه الذي سميناه بالإسترآس ونقترب من مفهوم المواطن الإيجابي المساهم في الشأن العام بأكثر من وسيلة.