من جديد يتعرض السكان في جنوب السودان إلى هزة عنيفة بفعل المعارك الدائرة هناك منذ 15 كانون الأول/ ديسمبر، خلفت آلاف القتلى، ونحو 100 ألف نازح، لجأ نحو 60 ألفا منهم إلى مقرات الأمم المتحدة في المنطقة.
وتعد الأزمة التي تواجه سكان جنوب السودان الأشد وطأة منذ 2011، وهو العام الذي استقل فيه الجنوب وأصبح جمهورية مستقلة برئاسة سلفا كير، ونقل فارّون من النزاع أن عمليات الانتقام والقتل تتم بوحشية مفرطة، حيث تهشم فيها رؤوس القتلى ويتم التمثيل بجثثهم، فيما يحرق آخرون وهم أحياء، بعد أن اتخذ النزاع طابعا عرقيا قبليا ولم يقتصر على الخلاف السياسي.خلفيات النزاع في جمهورية جنوب السودانحصلت جنوب السودان على الاستقلال في 2011 بعد صراع قاس مع دولة السودان الشمالية، ولم تتمكن الدولة الجنوبية الفتية من تجاوز تناقضات ومخاوف داخلية، خصوصا وأن عددا غير قليل من سكانها البالغ عددهم نحو 11 مليون نسمه يشعرون أن السلطة في البلاد يتم تقاسمها على أساس قبلي.حيث يتكون جنوب السودان من قبيلتين رئيستين هما قبيلة الدينكا التي ينحدر منها الرئيس سلفا كير، وقبيلة نوفيل ومنها نائب الرئيس رياك مشار، والقبيلتان خاضتا صراعا مريرا ضد الجيش السوداني قبل الاستقلال، بدواعي التحرير متناسيتان خلافات قبلية تعاظمت بعد استقلال جنوب السودان، وتفاقمت أكثر بعد أن تم اقتسام المناصب بينهما.ولم يدم الاتفاق بين القبيلتين طويلا فسرعان ما تفجرت الخلافات بينهما بعد أن صرح نائب الرئيس مرارا بانتقاد سلطة سلفا كير واتهمه بالفساد والاستيلاء على مناصب ووظائف البلاد المهمة لصالح قبيلته والموالين له، الأمر الذي فهمه الأخير على أنه محاولة للنيل من سلطته فسارع في تموز/ يوليو الماضي إلى تجريد نائبه وجميع وزراء الحكومة من مناصبهم دون سابق إنذار، ليعلن منتصف كانون الأول/ديسمبر عن إحباط محاولة انقلاب ضده قال إن نائبه مشار خطط لها.وأدت الإقالة وما تلاها من ادعاء بوجود محاولة انقلابية إلى نشوب نزاع مسلح ينطوي على أسباب قبلية وسياسية يتصدرها التنافس على السلطة، وقد استولى الموالون لمشار على ولاية الوحدة الغنية بالنفط ومناطق أخرى، وامتدت المواجهات إلى مناطق مختلفة من جمهورية جنوب السودان، كان المدنيون ضحيتها الأولى.معاناة إنسانية مرة أخرى كانت الأدغال والأحراش ملاذا لآلاف النازحين من معارك جنوب السودان في ظروف قاسية، فهذه المنطقة المنهكة من كثرة النزاعات والتي تعاني أساسا من مشاكل اقتصادية ومعيشية بسبب الافتقار إلى الموارد الطبيعية وانتشار الأمراض والتخلف بين سكانها تدفع من جديد ثمنا باهضاً للحرب.وقد سارعت الأمم المتحدة إلى طلب أموال عاجلة لمساعدة النازحين، وقدرت هذه الأموال بنحو 166 مليون دولار لتوفير الحاجات الملحة للنازحين من سكان الجنوب.وأشارت تقارير الأمم المتحدة إلى أن احتمالات استمرار النزاع في الجنوب تعزز حاجة السودان الجنوبي إلى أموال لإغاثة أعداد كبيرة من عموم السكان في البلاد وليس فقط النازحين منهم بفعل توقف الحياة الاقتصادية في جمهورية جنوب السودان التي تعاني من اقتصاد هش يعتمد على قطاع النفط المتضرر من المعارك ومن فرار العمال الأجانب العاملين في هذا القطاع بسبب المعارك.وقدر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة إن اولويات احتياجات سكان جنوب السودان تتمثل في مجالات الصحة وتوفير الغذاء ومن ثم توزيعه على النازحين، بالإضافة إلى إدارة المركز التي قصدها النازحون بأعداد كبيرة بعد اشتداد أعمال العنف والانتقام في مناطقهم.ووفقا للجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن الاشتباكات العنيفة التي اتخذت طابعا عرقيا خلفت الآلاف من الأشخاص بينهم عدد كبير من الأطفال والأرامل بأمس الحاجة إلى الرعاية الطبية، وقد ترك هؤلاء منازلهم وهاموا على وجوههم بحثا عن ملاذ آمن قد لا يتوفر.ومع أن منظمة الصليب الأحمر الدولي تقيم مستشفيين في جنوب السودان لتقديم الدعم الطبي العاجل لمحتاجيه، غير أن التدفق الكثيف للمرضى والمصابين يجعل من ذلك أمرا في غاية الصعوبة.وتشير إحصائية اليومين الأولين للنزاع إلى أن نحو 700 شخص قد لجأوا إلى مستشفيات الصليب الأحمر وهو عدد تعتبره المنظمة كبيرا جدا قياسا لحجم إمكاناتها الميدانية.وأجرت المستشفيات الميدانية للأمم المتحدة أكثر من 120 عملية جراحية بشكل عاجل في يومي النزاع الأولين وأعربت عن الخشية من أن أعدادا كبيرة ممن بحاجة الإسعافات لم تتمكن من الوصول إلى مراكز العلاج والمستشفيات ونبهت إلى إن الصراع السياسي يجب أن لا يتحول إلى صراع اثني قبلي.وقالت إحدى الهاربات من أماكن النزاع وتدعى.، سبيت ألبينو" اندلع القتال قريبا من منزلنا في وقت متأخر من ليلة 15، ديسمبر واضطررت إلى الهرب مع 18 من أفراد أسرتي وقضينا ليلة كاملة في العراء وتحت البرد القارص".وتعاني آلبينو والآلاف الآخرين ممن فروا من مناطق القتال من نقص كبير في الأغذية والأغطية ويحتاجون إلى الإيواء العاجل، خصوصا وأنهم لم يتمكنوا من اصطحاب أبسط المستلزمات الضرورية من مساكنهم.أفريقيا.. نزاع وفقر مزمنانالجمهورية الفتية في جنوب السودان هي موطن لحوالي 250000 لاجئ، وفقا لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة، واللاجئون هم أساسا من دول حوض النيل الأزرق وجنوب كردفان في السودان، ما يعكس الأزمة الإنسانية الحادة التي عاشتها أفريقيا على مدى العقود الماضية، والتي تظافرت الطبيعة القاسية ونقص الموارد الطبيعية والعنف المستشري في المنطقة على وصولها إلى مديات خطيرة تسببت بمعاناة إنسانية لا تحتمل.وقد شهدت إفريقيا على مدى العقدين الماضيين نحو 20 حربا إقليمية وصراعات عرقية، وحروبا أهلية، فجمهورية الكونغو الديمقراطية، شهدت مع نهاية القرن الماضي صراعا على السلطة تطور إقليميا وشاركت فيه سبعة جيوش دول مجاورة وخلف الصراع الذي استمر نحو أربعة أعوام أكثر من ثلاثة ملايين قتيل بين من قضوا بسبب النزاع المسلح والجوع والأمراض.وبين عامي 1998 و2000 خاضت كل من أثيوبيا وارتيريا نزاعا حول ترسيم الحدود، وخلف آلاف القتلى وآلاف النازحين، كما مر السودان بحرب طويلة بين الجيش السوداني والحركة الشعبية لتحرير السودان التي كان يتزعمها "جون قرنق" خلفت نحو مليوني قتيل.وشهد لاحقا، وتحديدا في منتصف العقد الماضي نزاعا داخليا بين حركات متمردة والجيش السوداني خلف نحو 100 ألف قتيل وأكثر من مليون ونصف المليون مشرد.وبالإضافة إلى ذلك شهدت كل من ساحل العاج وبوروندي معارك واضطرابات داخلية خلفت نحو 300 ألف قتيل، ومئات الآلاف من النازحين والمشردين.وفي أوغندا، خلف النزاع المسلح آلاف القتلى وأكثر من مليون ونصف المليون نازح، ونفس الحال ينطبق على كل من ليبيريا والصومال وأنغولا وتشاد والسنغال والصحراء الغربية ونيجيريا وغينيا الاستوائية.أفريقيا والحاجة إلى السلاممع أن المادة الثانية من ﺒﺭﻭﺘوكول مجلس ﺍﻟـﺴﻠم ﻭﺍﻷﻤـﻥ ﺍﻷﻓﺭﻴﻘﻲ قد نصت على أنه جهاز دائم ﻟﺼﻨﻊ ﺍﻟﻘﺭﺍﺭ ﻓﻴﻤﺎ ﻴﺘﻌﻠﻕ ﺒﻤﻨﻊ ﺍﻟﺼﺭﺍﻋﺎﺕ ﻭﺇﺩﺍﺭﺘﻬﺎ ﻭﺘﺴﻭﻴﺘﻬﺎ ﺩﺍﺨل ﺍلإتحاد ﺍﻷﻓﺭﻴﻘﻲ، غير أن هذا المجلس ظل عاجزا عن حل النزاعات التي تنشب في القارة الإفريقية لسبب يتعلق بعدم كفاءة الكثير من القيادات السياسية التي تتولى الحكم في بعض الدول الحديثة، أو بسبب التدخلات الإقليمية والدولية، فضلا عن نشاط الجماعات المسلحة الآيدولوجية التي وجدت في دول أفريقيا أو المجتمعات الإفريقية التي انهارت الدول فيها بيئة مناسبة لنشاطاتها المسلحة.من هنا يستلزم إصلاح الحال في القارة الأفريقية تدخلا أممياً وفقا لخطة واسعة تأخذ بيد الشعوب الأفريقية نحو إصلاح اقتصادي، وسياسي، فغالبا ما كانت الأوضاع الاقتصادية سببا في النزاعات الأمر الذي يعني أن حل مشاكل الدول الفقيرة ومساعدتها في تجاوز أزماتها وخلق فرص عمل للسكان من أولى الخطوات الهامة على طريق مساعدة هذه القارة في الخلاص من حروبها المدمرة.