يشير النزاع المسلح الداخلي أو ما يُعرف في القانون الدولي بـ "النزاع المسلح غير الدولي" إلى حالة من حالات العنف تنطوي على مواجهات مسلحة طويلة الأمد بين القوات الحكومية وجماعة أو أكثر من الجماعات المسلحة المنظمة، أو بين تلك الجماعات بعضها بعضا، وتدور على أراضي الدولة. وذلك على النقيض من النزاع المسلح الدولي الذي تنخرط فيه القوات المسلحة للدول.
في النزاع المسلح الداخلي، يتوجب على الاطراف المتنازعة تطبيق قواعد القانون الدولي الإنساني، المعروف أيضًا بـ "قانون النزاعات المسلحة" و"قانون حقوق الانسان" فضلا عن القوانين الوطنية. لاسيما ما يتعلق بالقواعد والاحكام القانونية ذات الصلة بحماية المدنيين، مثل حظر الهجمات المباشرة ضد المدنيين وحظر الهجمات العشوائية، والالتزام باحترام مبدأ التناسب في الهجوم، والالتزام باتخاذ الاحتياطات الممكنة من أجل تجنب إلحاق إصابات أو خسائر في الأرواح بين صفوف المدنيين.
لكن هناك تطور لافت للنظر في النزاعات المسلحة غير الدولية الحديثة، من حيث أطرافها، وشخوصها، ودوافعها، وأهدافها وغاياتها، وأدواتها وآلياتها، وساحاتها وآثارها، مما ينعكس على القوانين والقواعد الناظمة لمنع استهداف المدنيين وتطبيقها، الواردة في القوانين الوطنية والقانون الدولي الانساني وقانون حقوق الانسان.
وهذا التطور، يُثير تساؤلا هاما، وهو هل القواعد القانونية الخاصة بمنع استهداف المدنيين مازالت صالحة لاستيعاب التطورات الحربية للنزاعات الداخلية الحديثة؟ أم أن الهيئات الدولية والمنظمات الانسانية مطالبة بالعمل على تطوير تلك القواعد أو وضع آليات فاعلة تتطابق مع واقع النزاعات المسلحة؛ بما يضع حدا للأطراف المتنازعة من خلال تحديد مسؤولياتها القانونية بشكل واضح ودقيق؟
قبل الاجابة على هذه الاسئلة، يتعين الاجابة عن التطور الذي طرأ على العلميات الحربية الداخلية، والذي نعتقد أنه يمكن أن يدفع الهيئات الوطنية والدولية والمنظمات الانسانية إلى إعادة النظر مجددا في قوانينها التي تنظم حماية المدنيين والمناطق المدنية، والتي تجعلها أكثر استعدادا وتناسبا مع طبيعة النزاعات المسلحة غير الدولية الحديثة.
من خلال متابعة النزاعات المسلحة التي نشبت في كل من العراق وسوريا وليبيا واليمن ودول أفريقية أخرى، يمكن الاشارة إلى بعض هذه التطورات، وهي:
1- الاشتراك الدولي في النزاع غير الدولي: يميّز القانون الإنساني الدولي بين النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية. إذ تُعرّف النزاعات الدولية في المادة 2 المشتركة بين اتفاقيات جنيف الأربع بأنها: جميع حالات الحرب المعلنة أو أي اشتباك مسلح آخر ينشب بين طرفين أو أكثر من الأطراف السامية المتعاقدة-أي الدول-حتى لو لم يعترف أحدها بحالة الحرب. وهذا يشمل حالات الاحتلال الجزئي أو الكلي لإقليم أحد الأطراف السامية المتعاقدة، حتى لو لم يواجه هذا الاحتلال مقاومة مسلحة.
أما النزاعات المسلحة غير الدولية، فتُعرّف في المادة 1 من البروتوكول الإضافي الثاني، والذي طوّر وكمّل المادة 3 المشتركة بين اتفاقيات جنيف، بأنها: جميع النزاعات المسلحة … التي تدور على أراضي أحد الأطراف السامية المتعاقدة بين قواته المسلحة وقوات مسلحة منشقة أو جماعات نظامية مسلحة أخرى تمارس، تحت قيادة مسؤولة، السيطرة على جزء من إقليمه بحيث يمكنها ذلك القيام بعمليات عسكرية متواصلة ومنسقة، وبحيث تستطيع تنفيذ هذا البروتوكول.
هذا التعريف صحيح في وقته، وهو صالح لبعض النزاعات، فمن المسلم به أن النزاع الذي ينشب بين دولتين تتمتعان بالسيادة هو نزاع دولي، ولكن ماذا عن النزاع الذي ينشب بين أطراف محلية، وفي حدود دولة ما أو على حدود دولتين، ولكن تدخل فيه أطراف إقليمية ودولية، سواء مباشرة كاشتراكها في العمليات القتالية أو غير مباشرة، مثل دعم بعض أطراف النزاع على حساب الطرف الاخر، تخطيطا وتسليحا وتمويلا، وغيرها.
هل هذا النوع من النزاع الذي تشترك فيه أطراف اقليمية ودولية، اشتراكا فعليا أو لوجستيا، كما يحدث الآن في العراق وسورية واليمن وليبيا ودول أخرى، هو نزاع داخلي أم نزاع دولي؟ إذا كان الجواب هو مثل هذا النزاع هو نزاع داخلي وليس نزاعا دوليا، فما هو التكييف القانوني لوجود قوات عسكرية وأمنية مشاركة في العمليات الحربية مع هذا الطرف المحلي أو ذاك؟ ما هو التكييف القانوني لوجود مستشارين عسكريين في جهات القتال الداخلية؟
2- الذخيرة العسكرية والمواد الحربية المستحدثة: معروفة هي الاسلحة والذخائر الحربية التي يمكن أن يستخدمها أطراف النزاع الدولي أو غير الدولي، وهي تلك الاسلحة والذخائر التي تصنع في مصانع الدول المصنعة للسلاح ضمن شروط ومواصفات عسكرية محددة، كل سلاح بحجمه وسعته وهدفه.
إلا أن أطراف النزاع الداخلي في الوقت الحاضر، قد طوروا وسائلهم واساليبهم القتالية، ولم يعودوا يعتمدوا على تلك الاسلحة التقليدية في قتال بعضهم بعضا. إذ تتجه أطراف النزاع إلى استخدام أنواع جديد من السلاح والذخيرة والمواد التي من شأنها أن تحدث دمارا وخرابا وترويعا للمقاتلين والمدنيين على حد سواء.
مثل عمليات التفجير، من خلال استخدام مواد شديدة الانفجار مثل الديناميت والسي فور وغيرها من المواد الداخلة في صناعة القنابل. وتنوعت أنماطها من قنابل بدائية الصنع إلى قنابل ذكية ولاصقة وغيرها. وعمليات القتل بالأدوات الجارحة مثل السيوف والسكاكين مما يستخدم في الطعن والذبح وحز الرقاب. وعمليات الحرق أو الاغراق بتصنيع أدوات ومواد مؤثرة.
واختطاف الأفراد، ويتمثل باختطاف الضحية وسلبه حريته باستخدام اسلوب أو أكثر من أسلوب من أساليب العنف والاحتفاظ به في أماكن تعود للخاطفين. والاغتيالات، ولم تعد الاغتيالات موجهة كما كانت من قبل إلى الشخصيات المهمة والسياسية في النظام السياسي الحاكم، والتي يعتقد الإرهابيون أن اغتيالهم سيحقق شيئاً من الأهداف التي حددها التنظيم، بل اضحت الاغتيالات موجهة إلى أي مواطن أو مواطنة له علاقة بالطرف الاخر أو ليس له علاقة البتة. وقد يتعرف الجاني على اسم وهوية المجني عليه من خلال وسائل الاعلام، كما يحدث في العديد من الاغتيالات التي نفذها الإرهابيون الذين وقعوا في قبضة العدالة، والذين ذكروا في اعترافاهم أنهم تعرفوا على هوية ضحيتهم من خلال التلفاز!
3- الدعاية الحربية ووسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي: أظن أن التطور الذي حصل في وسائل الاتصال وظهور القنوات الفضائية المفتوحة والشبكة الدولية للمعلومات، هو وحده كافيا لإعادة النظر في قوانين النزاعات المسلحة وإجراءاتها بالذات القواعد ذات الصلة بحماسة المدنيين. فهي إحدى العوامل التي تلعب دوراً مهما في إيذاء المدنيين وتعذيبهم وقتلهم، فضلا عن تغييب وهضم حقوقهم وحرياتهم الشخصية السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وتساهم في نشر الرعب والتخويف بين الناس من خلال الأخبار والنشرات والتقارير التي تنشرها بكل أشكال الإعلام المرئي والمسموع والمقروء.
كما أن التطور الذي حصل في وسائل الاتصال وظهور القنوات الفضائية المفتوحة والشبكة الدولية للمعلومات التي ساهمت في ترويج أخبار الإرهاب ونشر أفكار المنظمات الإرهابية دون أي مقابل ومن الواضح أن الإرهابيين يخططون أعمالهم مع أخذ وسائل الإعلام كاعتبار رئيسي، وهم يختارون الأهداف والموقع والتوقيت طبقاً لما تفضله وسائل الإعلام، محاولين تحقيق المعايير المشترطة من حيث كون الحدث يستحق النقل كخبر والجداول الزمنية لوسائل الإعلام.
بل أن كثيراً من العمليات الإرهابية التي حدثت في الآونة الأخيرة كانت وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة من وسائل تبادل المعلومات وتناقلها بين القائمين بالعمليات الإرهابية والمخططين لها، وكذلك يقوم الإرهابيون باستغلال وسائل التواصل الاجتماعي في نشر أفكارهم والترويج لها والسعي لتكثير الأتباع والمتعاطفين معهم عبر المراسلات الالكترونية. ومما يقوم به الإرهابيون أيضاً اختراق البريد الالكتروني للآخرين وهتك أسرارهم والاطلاع على معلوماتهم وبياناتهم والتجسس عليها لمعرفة مراسلاتهم ومخاطباتهم والاستفادة منها في عملياتهم الإرهابية.
4- الانسان المؤدلج سلاح جديد في النزاع غير الدولي: لم يعد الانسان في النزاعات الداخلية طرفا في النزاع أو متأثرا فيه، إنما صار الانسان بذاته، أحد الاسلحة المهمة في الانتقام من الطرف الاخر أو مؤيديه أو انصاره، أو من يعتقد أنهم من مؤيديه وانصاره.
إذ بدأت أطراف النزاع الداخلي تصنع من بعض الناس لاسيما الشباب وتحت تأثير عقلي وفكري، قنبلة موقوتة، يمكن أن تنفجر في المكان والزمان الذي يخطط لاستهدافه طرف النزاع. واظن لم يحدث في التاريخ، ولا أحد كان يتصور يوما ما، أن يفخخ إنسانا ما، أو هو يفخخ نفسه ليقتل نفسه واعداءه أو من يعتقد أنهم اعداءه في الوقت ذاته، وسط المدنيين والتجمعات المدنية، وفي الشوارع والاسواق والمدارس والمستشفيات والسجون وغيرها. ليس هذا وحسب، بل صارت الحيوانات والمطايا والدواب هي الاخرى سلاحا بيد أطراف النزاع الداخلي لإيقاع أكبر عدد من الضحايا المدنيين. وآخرها استخدام السيارات الكبيرة لدهس أكبر عدد من المدنيين بما فيهم الاطفال والنساء كما حدث في مدينة نيس الفرنسية.
5- المقاتلون في النزاع غير الدولي محليون وأجانب: يكون النزاع نزاعا داخليا إذا كانت الاطراف المتنازعة هي أطراف محلية، ومقاتلوها ومؤيدوها محليون ينتمون إلى سكان ذلك البلد، ولكن ماذا لو كان المقاتلون أو المؤيدون لاحد أطراف النزاع أو لكليهما ينتمون إلى أكثر من دولة؟ وما هو التكييف القانوني للأعداد الهائلة من المقاتلين الاجانب القادمين من دول شتى، ضمنها دول العالم المتحضر؟ هل هذا النزاع هو نزاع داخلي أم دولي؟
6- المدن المكان الافضل للقتال والتمركز: في العادة، يقع النزاع المسلحة غير الدولي في مناطق نزاع واضحة ومحددة لأطراف النزاع، وقد تقاتل بعض الاطراف من أجل حدود تلك المناطق فلا تتعداها ولا تتجاوزها، ولو تجاوزتها فلأسباب تكتيكية ومؤقتة. وكثيرا ما يتجنب المحاربون القتال في المناطق المكتظة بالسكان، إلا أن أطراف النزاع اليوم كثيرا ما يلجئون إلى المناطق السكنية، ويجعلونها مقرا ومقاما ومركزا لإدارة عملياتهم الحربية بوجود المدنيين ودونهم. لذلك تحولت العديد من المدن في البلاد التي تشهد نزاعا مسلحا إلى جبهات قتال دائمة.
7- المدنيون الاداة الافضل لتحقيق المكاسب: قديما، يلجأ أطراف النزاع غير الدولي إلى خطف المدنيين بقصد المساومة أو الحصول على المال لإدامة زخم النزاع. ولكن في النزاع الحديث اضحى النصر والهزيمة مرهونان بقدرة كل طرف من أطراف النزاع على الحقاء الاذى بالمدنيين المحسوبين على الطرف الاخر. وكلما دخل بعض أطراف النزاع إلى مناطق كان يسيطر عليها الطرف الاخر، قتل ومثل واباد سكانها. فهل هذ النوع من الإبادة الجماعية للسكان المدنيين التي ترتكبها أطراف النزاع "الداخلي" هي جرائم محلية أم دولية؟
8- الاطفال والنساء الاكثر تضررا على الاطلاق: يركز أطراف النزاع المسلح الداخلي استراتيجيا على المدنيين. والمدنيون هم الضحية الاولى لكل شرارة نزاع مسلح. لذا، فان من الطبيعي أن يكون للأطفال والنساء النصيب الاكبر من الاذى والظلم. سواء بإجبارهم على الاشتراك في العميات الحربية أو قتلهم أو تعذبيهم أو اخذهم رهائن. وقد ابتكر بعض التنظيمات الارهابية كتنظيم "داعش" موضوع سبي النساء والاطفال، كما فعل تنظيم بالنساء والاطفال الايزيديين العراقيين، إثر احتلال مدينة موصل شمالي العراق.
9- تفتيت الشعوب وتقسم الاوطان: قديما كان النزاع المسلح يعبر عن مطالب وحقوق مشروعة لشعب ما أو جماعة ما، تتميز عن بقية ابناء البلد قوميا أو أثنيا. وهذه المطالب قد لا تتطور إلى الانفصال عن بلد الام، إذا ما تحقق تفاهما عليها ولا تؤدي إلى إنزال العقوبات الجماعية بكل ابناء الشعب، إلا أن أهم معالم النزاع المسلح الجديد واهدافه هو زعزعة استقرار الشعوب وتقسيم الاوطان اجزاء أجزاء. وينتقل هذا النزاع تلقائيا بسرعة البرق ليتدخل في شؤون البلاد المجاورة ويحرض على الانشقاق والقتال، ويدعو ابناء الوطن الوحد إلى قتال بعضهم بعضا، وإلى قتال جيرانهم تحت عنوان الدين أو المذهب أو المنطقة. فهل يعد هذا النزاع داخليا أم دوليا؟
استنتاجات وتوصيات
في ضوء التطورات التي ذكرناها آنفا:
1- نرى أن هناك تغيرا واضحا في تطبيقات مفهوم تقسيم الحرب إلى دولية وغير دولية، فما يمكن تسميته بحرب غير دولية هو في واقعه حرب دولية بامتياز من خلال وجود دول تشترك في النزاعات الداخلية بالفعل، وتدعم طرف على حساب طرف.
2- نرى أن أدوات ووسائل الحرب غير الدولية او النزاعات الداخلية قد تغيرت كثيرا هي الاخرى، فلم تعد وسائل الحرب التقليدية فعالة بقدر فعالية الوسائل الحديثة، وهذا يستجوب بذل المزيد من الاجتهاد لسد الثغرات القانونية التي نشأت عن تطور أدوات ووسائل الحروب.
3- ندعو هيئات الامم المتحدة ذات الصلة بشؤون النزاعات المسلحة غير الدولية وحقوق الانسان، والمنظمات الانسانية ذات الاهتمام بأوضاع الحروب الداخلية أن تعيد النظر في عدد من أحكام القانون الدولي الانسان وقانون حقوق الانسان الواجبة التطبيق في النزاعات المسلحة غير الدولية.
4- خصوصا تلك الاحكام الناظمة لمنع استهداف المدنيين والمناطق المدنية؛ لأنها من الناحية الواقعية لم تعد قادرة على تلبية متطلبات المرحلة الحاضرة مع اتساع رقعة الحروب والنزاعات الداخلية المسلحة، ومع تطور هذا النوع من الحروب وحلوله إلى حد ما محل الحروب التقليدية التي تقع بين دوليتين أو أكثر.