لا يختلف اثنان في علو منزلة حقوق الإنسان ورفعتها وإنها أمست ومنذ خلق الله البشرية غاية وهدف كل التنظيمات ذات الأصل الديني (السماوي) أو الأرضي (الوضعي) على حد سواء، ومقاومة السلطة الحاكمة أمر لا يخرج عن كونه واحداً من هذه الحقوق كون السلطة الحاكمة في الغالب، وان تبرقعت ببرقع الإلتزام بالدين والشرع المقدس أو ادعت انها تلتزم بالدستور والقانون ستسعى إلى فرض سلطتها ولو على جماجم الناس، وستنبري لفرض إرادتها التي تراها من زاويتها الحق المطلق ومن يخالفها هو الشيطان والخارج عن مقتضيات الشرع والقانون ولو كان محقاً.
لهذا كان للأحرار سبيل واحد هو مقاومة طغيان السلطة المتجبرة، وان سكوت أبناء الشعب عن حقوقهم الطبيعية في الميدان السياسي والاجتماعي والاقتصادي فانه يتسبب في المزيد من التجبر لدى السلطة الحاكمة وازدياد ميلها إلى الاستبداد والتعسف، وان وجدت المعارضة لتوجهاتها المنحرفة فلربما تتعقل وتلتزم بحدود اختصاصاتها وتسعى إلى ممارسة السلطة بما يتفق مع حفظ الكرامة الإنسانية المتأصلة.
وطغيان السلطة مفهوم له تطبيقات عدة، واحدة منها الاستبداد والتفرد بالسلطة، والأخر التعسف في استعمال السلطة، والوجه القبيح لها هو التحكم بمصير البلاد والعباد بما يرضي شهوات الحاكم المتجبر، وكل ما تقدم يجد له مكاناً في السلطة الحاكمة في السعودية ولذا نقول أن السلطة الحاكمة في أي بلد لتكتسب الشرعية ينبغي ان تتحلى بأمور أساسية وهي:
1- ان تتسلم سلطة الحكم بشكل شرعي وهي لا تكون كذلك إلا ان جاءت بشكل ديمقراطي يتفق مع الإرادة الحقيقية للشعب.
2- ان تمارس السلطة بشكل يتفق مع إرادة الشعب وان يتم ذلك في ضوء القواعد القانونية الوطنية والدولية الضامنة لحقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
أو بعبارة أخرى يلزم لشرعية السلطة وممارستها أمور:
الأول: كل نظام سياسي حاكم يمثل رؤية وأفكار يقف ورائها الحاكم ويحاول تجسيدها على أرض الواقع بكل الوسائل والسبل، والواجب ان تكون متفقة مع النظام الديمقراطي وتراعي المثل العليا المنبثقة من مبدأ المساواة والعدالة، لا التمييز والإقصاء والتفرد والتحكم بالخيرات والعائدات.
الثاني: امتلاك الحاكم المؤهلات السياسية المتمثلة بالحكمة وحسن التصرف، والمؤهلات القانونية المتمثلة بالشرعية في تبوأ المنصب واعتماد آليات ديمقراطية للوصول إلى السلطة وتمتعه بثقة الشعب طيلة فترة بقاءه في المنصب، فان افتقد لذلك كان الشعب الجهة الوحيدة القادرة على عزله ومحاسبته.
الثالث: قبول الشعب بما يصدر عن الحاكم كونه لا يخرج عن الغاية الرئيسة في هذا الخصوص المتمثلة باستهداف المصلحة العامة في كل القرارات، وان افتقاد أياً مما تقدم يبيح للشعب الحق بمقاومة الحاكم كونه قد فقد مبرر الطاعة.
وما تقدم لا وجود له في المملكة العربية السعودية فلا النظام الحاكم جاء نتيجة إرادة الشعب ولا هو مستند في ممارستها إلى تلك الإرادة بل هو جاء بالقوة والقهر والقتل والتدمير وكان ذلك في جزء منه مستند لإرادة استعمارية تغاضت عما تقدم لتضمن ولاء المشيخة الحاكمة في كل دول الخليج لسلطانها، وبما يحفظ لها مطامعها ومصالحها في المنطقة، والإرادة ذاتها اليوم تتغاضى عن الممارسات اللاإنسانية للمملكة ولكل الأنظمة الحاكمة في الخليج لأجل ما تقدم.
ولنا في البحرين المثال الأبرز فمنذ ستة سنوات مارس النظام مختلف صور قمع الحريات والتنكيل بأبناء الشعب دون ان تحرك الدول الغربية ساكناً، ويتكرر الأمر ذاته في المنطقة الشرقية في السعودية فتتخذ الدول الغربية التي طالما تشدقت بحماية حقوق الإنسان وأخذت موقف المدافع عنها جانب الصمت المطبق وكأن شيئاً لم يكن، لهذا وجد النظام السعودي الاستبدادي الحاكم ضالته في الغطاء الغربي لأفعاله الشائنة بحق أبناء الشعب عامة والمنطقة الشرقية خاصة فراح العديد من أفراد المؤسسة الأمنية والعسكرية يذيقون الناس أنواع العدوان بقصف المدنيين الأمنين وهدم منازلهم وأماكن عبادتهم بما يشكل انتهاكاً صارخاً لكل القيم السماوية والمواثيق الدولية التي تضمن حقوق المدنيين والسكان الأصليين، ولم يبق أمام سكان المنطقة إلا التعبير عن سخطهم ورفضهم للأساليب المتخلفة التي يواجهون بها فاظهروا حقهم الطبيعي في مقاومة السلطة المستبدة المتعجرفة حيث يقول تعالى في محكم كتابه المجيد "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ۞ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز" سورة الحج الآية 39-40.
فمقاومة استبداد السلطة الغاصبة إما يكون نتيجة نص دستوري يبرر ويشرعن للشعب الخروج على الحاكم الجائر كما ورد في دساتير العديد من الدول ومنها على سبيل المثال دستور الاكوادور لعام 2008 وهذا ما لا نتوقعه من نظام يعتمد الرعب والقتل سبيلاً لبقاء سلطانه كالنظام السعودي المعتمد على دستور العام 1992المسمى بـ(النظام الأساسي) وان وردت في هذا النظام إشارات إلى حق مقاومة الطغيان إذ ورد بالمادة الثامنة من النظام الأساسي (يقوم الحكم في المملكة على أساس العدل والشورى والمساواة وفق الشريعة الإسلامية)، فحين يمرق الحاكم عن العدل والمساواة تكون مقاومته واجباً شرعياً لقول النبي محمد صلى الله عليه واله من رأى منكم منكراً فليغيره بيده وبلسانه وبقلبه وهو أضعف الإيمان، والله سبحانه يحب المؤمن القوي الذي يقول الخير ويعمل الصالح وينكر المنكر، وفي أحيان أخرى لا يكون هنالك نص صريح يفوض الشعب حق مقاومة الطاغي ويحدد أساليب المقاومة وطرقها فان الشعب يملك الحق الذي لا يقبل التفاوض في عزل الحاكم الذي يخرج عن مقاصد المصالح العليا للشعب وينحرف عن وظيفته ليجنح باتجاه الاستبداد والفساد في الأرض بدل عمرانها.
وفي أوربا وبالتحديد في عصر النهضة الفكرية وجد ما تقدم تبريراً في كتابات المفكرين الذين حاولوا الربط بين حق مقاومة الإستبداد وبين العقد الإجتماعي المبرم بين الشعب والملك أو السلطة الحاكمة ولذا كان هوبز لا يؤيد وجود حق المقاومة باعتباره يرى أن الملك لم يكن طرف في هذا العقد بل امتدت آثار العقد إليه وخول ممارسة الحكم بسببه، في الوقت الذي يرى روسو ان مقاومة الملك ان انحرف عن مقتضى العقد حق للشعب كون السلطة أخلت ببنود العقد الاجتماعي ما يبرر مقاومته وعزله، والحق في التصدي للحاكم المستبد ليس فكرة طارئة يتم مناقشتها اليوم بل له جذور تعود إلى صدور إعلان الاستقلال الأمريكي في العام 1776 الذي انطلق من مبدأ السلطة العادلة التي تنشأ عن اتفاق المحكومين لا تلك التي تفرض عليهم.
وتضمن إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي لعام 1789 نصاً مماثلاً في المادة الثالثة والثلاثين التي اعتبرت حق مقاومة الظلم والاستبداد حقاً لا يجوز المساس به، بل هو النتيجة الطبيعية لحقوق الإنسان الأخرى وعلى رأسها الحق في الأمن والحرية، وبعد الحرب العالمية الثانية شهد العالم الاعتراف الرسمي بهذا الحق حين نص عليه صراحة ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945 في المادة (51) منه، حيث اعتبرت مقاومة الشعب للدفاع عن نفسه ضد ما يداهمه من اعتداء حقاً مشروعاً، وبعد ذلك أشارت مقدمة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948 إلى هذا الحق صراحة إذ اعتبرت الديباجة ان التمرد على الاستبداد والظلم نتيجة طبيعية لتغييب حقوق الناس والعدوان على حرياتهم، ومن ثم صدر عن الجمعية العمومية في الأمم المتحدة العديد من القرارات في الأعوام 1972 و1974 أقرت للشعوب الخاضعة للاحتلال بحق مقاومته بكل الوسائل لنيل الحرية والاستقلال وتقرير مصيرها بنفسها، وهي بذلك تشير إلى شرعية مقاومة أي معتدٍ على سلطان الشعوب وأراضيها وقيمها الراسخة سواءً أكان حاكم مستبد أم محتل أثم، والملاحظ ان مقاومة الاستبداد تأخذ صوراً عدة أهمها بالعادة أهمها الآتي:
1- رفض سياسات النظام الحاكم وانتهاكاته للمبادئ المتعلقة بحقوقه الطبيعية عبر التشريعات أو تطبيقاتها المنحرفة، أو ما يرافق ممارسة السلطة من فساد إداري أو مالي، وفي الحالة السعودية يمارس النظام سياسة شاذة تتخذ من الدين غطاء على الانتهاكات التي يتعرض لها الشعب، حيث غيبت حقوق الشعب الأساسية في التعبير عن الرأي وحرية الدين والعقيدة، بل ان الوسائل الإعلامية المرتبطة بالنظام تحاول ان تصور انتفاضة الشعب ضد الظلم على إنها إرهاب مع الفوارق الواضحة بين الاثنين.
2- قد تتطور سبل مقاومة الطغيان لتأخذ شكل المظاهرات السلمية أو التجمع السلمي والمطالبة السلمية العلنية بتغيير السياسات أو القرارات المتخذة في شأن معين والتي تتقاطع مع تطلعات الشعب وحقوقه وحرياته.
3- الإضراب: والإضراب يعرف على أنه اتفاق مجموعة من الموظفين أو العمال أو المستخدمين بالتوقف عن العمل لحين الاستجابة لمطالبهم، وقد يكون هؤلاء من ممارسي مهنة أو عمل معين متماثل أو غير متماثل، وبهذا الموقف هم يعلنون رفضهم لقرار معين أو سياسة يراد تطبيقها عليهم.
4- العصيان المدني: ويعد مرحلة متقدمة في مقاومة الطغيان يأخذ شكل الاتفاق الشعبي على رفض سياسة السلطة الحاكمة ومقاطعتها عبر غلق المحال العامة والخاصة وتعطيل بعض مفاصل الحياة العامة بما يلزم السلطة الحاكمة على النزول عند إرادة الجماهير.
5- الثورة: وهي تمثل قمة الرفض الشعبي للطبقة الحاكمة وقراراتها أو سياساتها فتتم الإطاحة بها وتغيير النظام السياسي برمته، ويصار بالغالب إلى وضع دستور جديد تصان فيه الحقوق والحريات ويضمن حق الشعب في إسماع صوته ومطالباته للحاكم.
ويبدو ان المواطنين في المنطقة الشرقية لم تخرج تحركاتهم عن الشكل الأول من أشكال المقاومة إلا انهم جوبهوا بردة فعل عنيفة من قبل نظام استبدادي لا يجد رادعاً له، بل ان المنظمات الدولية الراعية لحقوق الإنسان وعلى رأسها الأمم المتحدة ومجلس الأمن اللذان تعد المملكة أحد أهم الدول الفاعلة في أروقتهما أخذت جانب الصمت، والغريب في الأمر ان الدول العظمى التي تتغنى بمعاداة النظام السوري على سبيل المثال بحجة قمعه للشعب وتطلعاته للحرية تغمض أعينها عما يقوم به نظام يمد المعارضة السورية بالمال والسلاح والدعم السياسي لمقاتلة نظام الحكم بدعوى أنه نظام دكتاتوري بيد تم افعالهم ارتدت على الشعب السوري الذي هجر وقتل، وبهذا الفعل الشائن يدين النظام الحاكم نفسه بنفسه اذ يقول تعالى "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُون" سورة البقرة الآية 44،.
والرفض بكل أشكاله للسلطة الحاكمة لا يكون من فراغ بل هو انعكاس طبيعي لسنوات من الحرمان والتنكيل ومصادرة الحقوق والحريات ما جعل السلطات هنالك مجردة من كل معاني المشروعية والشرعية وفاقدة لسند الإطاعة، وما قيامها بالتنكيل بالناس العزل إلا دليل أخر على التناقض الذي تعيشه الأنظمة الحاكمة في الخليج وبالخصوص المملكة التي تحكم بعقلية القرون الوسطى، بل ان خطابها الخارجي الذي تتهم فيه دول باضطهاد شعبها يدعو إلى السخرية ويكون مصداق قول الشاعر رمتني بعارها وانسلت، وممارساتها القمعية ولا شك تثير مسؤولية حكامها عن الفظائع التي ارتكبت ولا تزال ترتكب كما تثير مسؤولية المجتمع الدولي الذي تغاضى عن تلك الأفعال، في الوقت الذي تحاسب أنظمة أخرى بحجة حماية حقوق الناس المضطهدة فهذا التناقض والانتقائية لا يزيد الناس الا حنقاً على النظام الدولي القائم على رعاية مصالح الدول العظمى والحفاظ على الأنظمة الرجعية والقمعية التي تحرس تلك المصالح ولو كان ذلك على جماجم أبناء البلدان الأصليين.