يعيش العراق ظروفاً استثنائية منذ عقود وتوالت الوثائق الدستورية والقوانين الأساسية المتعلقة بتنظيم ممارسة الحكم وحقوق الشعب وحرياته الأساسية، وكونت بمجموعها إرثاً قانونياً زاخراً ومهدت الطريق للتحول إلى نظام ديمقراطي تبناه دستور البلد المستفتى عليه العام 2005.
وقد تضمنت هذه الوثيقة تأكيداً على حقوق الإنسان العراقي وحرياته الأساسية في الباب الثاني المعنون بـ(الحقوق والحريات)، والمتفحص لهذه النصوص يجد إنها ستبقى جوفاء ان لم نوفر لها ضمانات التطبيق ومنع السلطات العامة والأفراد من التجاوز عليها، فقد أثبتت التجارب السابقة إن دستور العراق الأول المسمى القانون الأساسي العراقي 1925 تضمن هو الآخر باباً يتعلق بحقوق الشعب وكذلك الأمر بالنسبة لأغلب الدساتير التي صدرت في العهد الجمهوري لاسيما دساتير الأعوام 1964 -1970، إلا أن الملاحظ أنها كانت نصوصاً مكتوبة والتطبيق العملي كان بعيداً عنها بشكل غريب، فالسلوكيات والممارسات من قبل الطبقة الحاكمة والطبقات المقربة أو الداعمة لها كالحزب الحاكم كانت تعيث في الأرض الفساد بلا رادع حقيقي، فكان المواطن يعاني الأمرين من تعسف باستخدام السلطة ومن استهانة بكيانه وكرامته، بل وحتى بعقله ومصادرة لحياته أو حريته كانت من الممارسات اليومية المعتادة وواحدة من الأسباب التي قادت إلى ذلك غياب الرقابة الحقيقية على السلطات العامة.
ولما كان من الثابت إن الشعب هو السيد الحقيقي والمالك الشرعي للسلطة وما الدستور أو القانون إلا تصور وآلية تسهل ممارسة تلك السلطة بتحديد الهيئات الحاكمة وتبين كيفية أداءها للمهام الملقاة على كاهلها نيابة عن الفرد العراقي، لذا يفترض بالدستور وهو القانون الأسمى في البلد أن يكون المعبر الحقيقي عن إرادة الشعب وثوابت الأمة من دين أو لغة أو ثقافة أو تاريخ وحضارة، وان يكون تصوير واقعي لاهتمامات المواطن وتطلعاته، وهو ما ينعكس بصيغة تبين ذلك ونصوص أخرى تضع قيود على طريقة تعديل الدستور وإعادة النظر به، وتجعل من هذه المهمة ليست باليسيرة لضمان سموه وعلوه على القابضين على السلطة نيابة عن الشعب لمنعهم من الجنوح نحو الاستبداد أو استغلال المنصب والوظيفة، وبحجة تعديل الدستور يتم تكريس الهيمنة الفردية أو الجماعية على مقالد السلطة ومكامن اتخاذ القرار، أو يتم التذرع بحالة الضرورة والظروف الاستثنائية للتطاول على ثوابت الأمة وحقوق الشعب.
لهذا كان من الحتمي أن توضع آليات تكبح جماح السلطة وتوقفها عند حد معين ولعل المختصين يجمعون على ان أكثر تلك الوسائل فاعلية هي تنظيم الرقابة القضائية على السلطات العامة التشريعية والتنفيذية، وهذا ما أشار إليه دستور العراق لعام 2005 حينما أكد علويته في المادة الثالثة عشر بالنص على ان هذا الدستور القانون الأسمى والأعلى في العراق ويكون ملزماً في أنحائه كافة، ولا يجوز سن قانون يتعارض مع هذا الدستور ويعد باطلاً كل نص يرد في دساتير الأقاليم أو أي نص قانون أخر يتعارض معه.
ولضمان ذلك نظم المشرع العراقي الرقابة القضائية على أداء السلطة التشريعية والتنفيذية لمنعها من التجاوز على ما تقدم، حيث تنص المادة الثالثة والتسعون على ان المحكمة الاتحادية العليا تختص بالرقابة على دستورية القوانين والأنظمة النافذة، وان المحكمة هي الجهة الوحيدة المخولة سلطة تفسير نصوص الدستور العراقي، وكما تختص بالفصل في القضايا التي تنشأ عن تطبيق القوانين الاتحادية والقرارات والأنظمة والتعليمات والإجراءات الصادرة عن السلطة الاتحادية، ويكفل القانون حق كل من مجلس الوزراء وذوي الشأن من الأفراد وغيرهم حق الطعن المباشر لدى المحكمة، ثم أضافت المادة الرابعة والتسعون أن قرارات المحكمة باتة وملزمة للسلطات كافة، ويمثل تنظيم الرقابة القضائية على أعمال السلطتين التشريعية والتنفيذية نضجاً قانونياً وفكراً متحرراً واعتقاداً جازماً بأهمية تحقيق الدولة القانونية التي يسود فيها القانون على الجميع بلا تمييز، كما يعبر عن مدى الإيمان بأرجحية ومكانة القضاء بما للأخير من معرفة بالقانون وما يتمتع به من استقلالية وحيادية ومهنية وقدرة على فهم النصوص والمزاوجة بين ضرورات المصلحة العامة وأرجحية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
ومما تقدم يتبين لنا الآمال الكبيرة المعقودة على المحكمة الاتحادية ودورها، وهو الأمر الذي نعتقد جازمين انه لن يتحقق إلا أن توافر للمحكمة بعض المقومات ومن أهمها:
1- إقرار قانون المحكمة بأسرع وقت ممكن: كون المحكمة الحالية مشكلة وفق المادة (44) من قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية لعام 2004 واليوم وبعد مرور اثنتا عشرة سنة على نفاذ الدستور العراقي لم يصدر قانون المحكمة بعد ما ينذر بخطر محدق على دور المحكمة وضمان مهنيتها وموضوعيتها.
2- حياد المحكمة: فمبدأ حياد القاضي والمحكمة من أهم عناصر الاستقلال ويعني ان تكون المحكمة وأعضائها متجردين عن التحييز والميل والهوى لمصلحة أحد الأطراف وبعيدين عن الأحكام المسبقة المبنية على الاعتقاد الشخصي والقناعات الذاتية بل لابد من الاستناد دائماً إلى الأسس الموضوعية في العمل، وان يكون القضاة جميعاً بعيدين عن الميل لأسباب سياسية أو دينية أو غيرها.
3- الاستقلال: فلابد لأعضاء المحكمة ان يكونوا متجردين من الانتماءات الضيقة لاسيما السياسية والحزبية منها لضمان عدم الانحراف عن مقاصد العمل القضائي.
4- التخصص: فالعمل في المحكمة الاتحادية العليا بحاجة إلى نوع محدد من القضاة والخبراء ممن يملكون التأهيل الفني والخبرة اللازمة والمزايا الشخصية التي تؤهلهم للاطلاع بمهمة التأكد من توافق العمل القانوني مع الدستور من عدمه فهو يتعامل يومياً مع دعاوى عدة ترفع لمخاصمة نص في قانون أو نظام يعتقد بمخالفته للدستور ما يستدعي الإلمام الواسع بالنصوص القانونية والإحاطة بالتفسير الموضوعي لنصوص.
5- المهنية: بان يكون عملهم فنياً صرفاً إذ لا سلطان على القاضي أو المحكمة لغير القانون، وتصدر الأحكام على نحو ما استقر الضمير المهني بعيداً عن التأثيرات وبمراعاة أسس العدالة والمساواة المطلقة.
6- الحصانة ضد العزل: فبما إن تعيين قضاة وأعضاء المحكمة سيتم من خلال مجلس النواب فلابد من النص صراحة بقانون المحكمة على عدم قابلية الأعضاء للعزل بسبب أداءهم المهني لكي لا تستغل هذه الثغرة للضغط على المحكمة.
وتكمن أهمية المحكمة الاتحادية العليا في العراق كضمانة لحقوق المواطن وحرياته الأساسية إلا إن أحكام المحكمة الاتحادية تأرجحت بين السلب والإيجاب في تقرير الحقوق والحريات ونعطي فيما يلي أمثلة تطبيقية لما تقدم وفق الآتي:
1- إلغاء النصوص القانونية التي تتعارض مع الحقوق والحريات الأساسية: إذ يعمد البرلمان بشكل شبه يومي إلى إقرار مجموعة من القوانين، فقد لا تتمكن المعارضة البرلمانية والشعبية ومنظمات المجتمع المدني أو السياسية الممثلة بالأحزاب من منع المضي بتشريع القانون، إلا إن المحكمة يمكن أن تقف لهذا الانحراف بالمرصاد وتقرر إلغائه، فعلى سبيل المثال حينما صدر قانون الأحزاب بادر البعض للطعن ببعض أحكامه وبالفعل قامت المحكمة الاتحادية بقرارها المرقم (6/اتحادية/2016 في 9/8/2016) بإلغاء البند سادساً من المادة التاسعة الذي اشترط الشهادة الجامعية لمن يرغب بالتأسيس لحزب جديد، كونه يخالف المادة الرابعة عشر من الدستور التي نصت على مبدأ المساواة والمادة عشرين التي كفلت التمتع بالحقوق السياسية، والمادة التاسعة والثلاثون المتعلقة بحرية تأسيس الأحزاب السياسية، وبذات الحكم قضي بإلغاء البند ثانياً من المادة (22) الذي جعل من رئيس تحرير صحيفة أو مجلة الحزب هو المسؤول عما ينشر فيها لمخالفته حرية الرأي والتعبير الواردة بالمادة الثامنة والثلاثين وان المادة (81) من قانون العقوبات العراقي قررت مساءلة رئيس التحرير إن قصر بواجبه، أما إن ثبت عدم درايته فلا يسأل جزائياً، كما عمدت المحكمة إلى إلغاء المادة (44/ثانياً) من قانون الأحزاب التي تقرر نسبة إعانة (80%) للأحزاب التي تفوز بمقاعد المجلس النيابي، وبررت المحكمة ذلك بأنه سيؤدي إلى تركيز السلطة بيد الأحزاب الكبيرة التي حصلت على تأييد جماهيري ما يؤمن بقائها بالسلطة بأموال الشعب، ونتفق مع ما ذهبت إليه المحكمة جملة وتفصيلاً إذ حرصت أحزاب السلطة على إيراد النص الأخير لتكمم الأفواه وشراء الذمم بأموال المواطن العراقي.
2- أخفقت المحكمة في النهوض بمسؤوليتها الدستورية حينما تصدت للنظر في الدعوى المرقمة (2/اتحادية/2016 في 16/8/2016) والتي طلب مقدمها إلغاء النصوص الآتية:
أ- المادة (9/عاشراً) من قانون المفوضية العليا المستقلة للانتخابات رقم (11) لسنة 2007 الذي كرس الطائفية بالنص على مراعاة التوازن بين مكونات الشعب العراقي عند تشكيل مجلس المفوضين، وما ورد بالتعديل الأول لقانون المفوضية رقم (21) لسنة 2010 الذي ألزم بمراعاة التوازن بين مكونات الشعب عند تثبيت الملاك الخاص بالمفوضية).
ب- المادة (9/ثاني عشر) من النظام الداخلي لمجلس النواب لسنة 2006 المنشور بالوقائع العراقية بالعدد (4032)، الذي جاء فيه الأمر بان يتوافق الرئيس مع نائبيه بهيأة الرئاسة في الإشراف والرقابة على جميع الموظفين في ديوان المجلس وفي اتخاذ القرارات المتعلقة بالتعيين والإيفاد إلى الخارج بما يحقق مبدأ التوازن وتكافؤ الفرص لجميع العراقيين.
ج- المادة (2/الفقرة 4) من النظام الداخلي لمجلس الوزراء رقم (8) لسنة 2014 التي جاء فيها التوصية إلى مجلس النواب بالموافقة على تعيين وكلاء الوزارات والسفراء وأصحاب الدرجات الخاصة بما يحقق التوازن الوطني.
إلا أن المحكمة خيبت الآمال حينما ردت الدعوى وعللت الرد بان (المواد 2 و3 و4 أولا و9) من الدستور تبرر ذلك، رغم إن هذه النصوص لا تؤسس للمحاصصة بقدر ما ترسي الحق بالتنوع، إذ تنص المادة الثانية على عدم جواز سن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام أو مع مبادئ الديمقراطية والحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية أبناء الشعب العراقي مع احترام التعددية الدينية وحرية الممارسات الدينية، والمادة الثالثة تبين ان العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذهب، وتتحدث المادة الرابعة/أولاً عن اللغة العربية والكردية وإمكانية اعتماد لغات أخرى محلية في المناطق التي فيها أغلبية معينة، أما المادة التاسعة فهي خاصة بالقوات المسلحة العراقية وضرورة تمثيل المكونات جميعاً فيها بدون إقصاء وذلك يرجع تاريخياً لمخاوف من التفرد بالمناصب لطيف معين في مرحلة من حياة النظام البائد، وجاء بمعرض حكم المحكمة "إن الهدف هو مشاركة جميع أفراد مكونات الشعب العراقي في مسؤولية تسيير الدولة وتبوأ المناصب والمواقع كل حسب تخصصه وقدراته وتحقيق المساواة حسب المادة (14) من الدستور في حسن الاختيار والشفافية والكفاءة والمهنية، إلا أن التطبيق العملي لهذه النصوص جاء بخلاف الهدف من وضعها فالقوى المتمكنة من القرار قد ذهبت إلى تفسيرها بشكل مغاير إلى ما ترميه من أهداف مرة باسم الاستحقاق الانتخابي ومرة باسم المشاركة الجمعية وثالثة باسم التوافق وغير ذلك من المسميات.. وتجد المحكمة إن هذه النصوص لم تكن في مبناها مخالفة للنصوص الدستورية إنما كان الخلل في تطبيق أصحاب القرار والقوى المتمكنة مما أسفر عن عدم تحقق أهدافها وعدم تحقق التوازن والعدالة والمساواة في تحمل المسؤوليات بين أفراد مكونات الشعب العراقي.. وتجد المحكمة الاتحادية العليا ان تصويب ذلك الخلل في التطبيق لا يكون بإلغاء النصوص المطعون بعدم دستوريتها وإنما عن طريق تصحيح مسار التطبيق بالطرق التي رسمها القانون".
إن عيوب الحكم الأخير بادية للقاصي والداني كالشمس في رابعة النهار، إذ إن المحكمة الموقرة نسيت أنها محكمة عليا وأنها المؤتمنة على حقوق أبناء الشعب وحرياتهم وان المحاصصة هي السم سبب المشاكل التي من خلالها انتهكت الحرمات وسرقت الأموال وضاعت المصالح العامة والخاصة وراحت بكل هدوء تقدم نصائح للسياسيين، ولا أريد في هذا الموطن إلا أن أذكر المحكمة بنص المادة (94) من الدستور الذي قرر إن أحكام المحكمة الاتحادية العليا باتة وملزمة ولم يتطرق وللأسف للنصح والإرشاد وما قيمته دستورياً وقضائياً.