الثابت إن حرية الإنسان هي الأصل العام وان حرمانه منها لا يكون إلا لأسباب مسوغة ولحماية مصلحة أرجح وأهم في ميزان حقوق الأفراد وحرياتهم، وتعد الحرية في التنقل واحدة من الحريات الأساسية للإنسان العراقي خاصة لارتباطها المتين بشخص الفرد وإنها تعبر عن ذاته وخياراته الخاصة في حياته اليومية بلا إملاء أو فرض من أي شخص أخر، فالإنسان العراقي حر في التزام مكان معين أو مغادرته في أي وقت يشاء وان أي منع أو احتجاز له هو اعتداء سافر يمس الإرادة الشخصية والأمن الاجتماعي.
وقد تعرض عدد غير قليل من أبناء المحافظات العراقية للاحتجاز من قبل جماعات إرهابية متعددة الأهداف والغايات وهي تبغي من وراء ذلك أما جمع الأموال عبر الابتزاز أو اتخاذ الأبرياء دروعاً بشرية لمنع القوات الأمنية من استهدافهم المباشر، بل إن سحب المعارك مع القوات الأمنية إلى داخل المدن التي يقطنها الآلاف من الآمنين هو احتجاز قسري لهم ومصادرة لحقهم في الأمن وحرية التنقل التي ستنعدم تقريباً لسبب لا يد لهم فيه، وهذا سلوك دأبت الجماعات الإرهابية على سلوكه في العراق منذ عقد من الزمان وتعددت تطبيقاته في اغلب دول المنطقة والعالم ممن تعاني آفة الإرهاب والتطرف بل لم تسلم منه حتى الدول الأوربية وما شهدناه من احتجاز للرهائن في أكثر من دولة ومناسبة دليل على ذلك النهج القائم على الإساءة والانتقام من الأفراد الأبرياء مرة بالقتل والتنكيل ومرة بالترويع والتخويف والاحتجاز والعدوان بلا أي مبرر.
والاختطاف أو الحجز غير المشروع يماثل من حيث النتيجة المتمثلة في تقييد الحرية الشخصية بعض التطبيقات الأخرى كالسجن والحبس والتوقيف أو القبض أو الإقامة الجبرية وغيرها، إلا انه يتميز عما تقدم بصفتين الأولى انه تصرف غير مشروع فالسجن والحبس قد يكون مشروعاً لمن ارتكب جريمة وصدر بحقه حكم قضائي بات والحجز قد يكون مشروعاً بحق من تنبأ حالته بخطورة كالمجنون وفق أمر صادر من جهة طبية مختصة، أما الاحتجاز بلا أمر مشروع فانه يهدف إلى إعدام حرية الفرد تعسفاً وتحقيقاً لغايات وأهداف غير مشروعة، والشخص المختطف هو من حرم من حريته الشخصية بفعل شخص أو جماعة لسبب إجرامي أو إرهابي، ولعل هذا التعريف يجعل من المختطف لأسباب إرهابية ضحية عدوان سافر يطال حقوقه وحرياته الأساسية بلا مسوغ أو سبب معقول، إلا ليحتمي المجرمون بهم ويجعلونهم يعيشون حياتهم اليومية داخل سجن رهيب تتنوع فيه وسائل وأساليب الاعتداءات على الحياة والشرف وكل ذلك يتم تحت مرأى العالم ومسامع قادته الذين ابرموا مسامعنا بالمثل الوهمية والخطابات اليومية الفارغة والادعاءات الكاذبة والتي جعلت المواطن العراقي يعيّ جيداً الازدواجية التي يعيشها العالم والأزمة الأخلاقية التي تعانيها أنظمة الحكم في المنطقة.
ويتبين لنا من هذه المقاربة إن الاحتجاز والاختطاف الذي تقوم به الجماعات الإرهابية إنما هو جزء من مخطط أكبر لإحداث تغييرات في التركيبة السكانية تارة وإطالة أمد النزاع تارة أخرى أو للحصول على موارد تستغل لارتكاب المزيد من الجرائم، وان هذه الأعمال تتجافى مع القيم الدينية والأخلاقية بل أنها سلوكيات غير مشروعة لكونها تخالف ما يقرره القانون والدستور فلا يجوز الاعتداء على حرية أحد الأشخاص أو حرمانه منها أو تقييدها على نحو معين أو إجباره على ترك محل إقامته إلا وفق إجراءات قانونية محددة ولأسباب مبررة وبشرط توفير جميع مقومات حفظ الكرامة الإنسانية بغض النظر عن الجنس أو اللون أو الدين أو المعتقد بل علاوة على ما تقدم لا ينظر إلى جنسية الشخص أهو من رعايا الدولة أم لا، وما يحدث في بعض مناطق العراق إنما هو اعتداء وامتهان للكرامة الإنسانية التي يقول عنها الله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا".
ومما يؤسف له ان ظروف الضحايا المختطفين أو المحتجزين من قبل العصابات الإرهابية غاية بالصعوبة فحياتهم طوال الوقت معرضة لخطر جسيم حال ولا يؤخذ بنظر الاعتبار أوضاع المرضى أو النساء الحوامل والأمهات المرضعات والأطفال وكبار السن ممن تقتضي حالتهم رعاية خاصة وتوفير ظروف عيش ملائمة لأوضاعهم، والغالب إن هؤلاء يتعرضون للتعذيب والإهانة وشتى ضروب المعاملة غير الإنسانية، كما وإنهم بالغالب يقعون فريسة سهلة للجوع وقلة أو انعدام مصادر المياه الصالحة للشرب ما يضطرهم إلى استعمال مياه آسنة أو غير صحية وترتفع بالغالب أسعار السلع الاستهلاكية وغيرها ارتفاعاً فاحشاً في المدن التي تقع تحت هيمنة الإرهابيين المسؤولين عن اختطاف سكانها بالكامل ما يخلق أوضاعاً إنسانية مؤلمة لا يجد معها المختطفون والمحتجزون قسرياً في المدن التي تدور بين جنباتها رحى الحرب ما يشعرهم بكيانهم الآدمي وحقوقهم الطبيعية التي ينبغي ان تحترم في كل زمان ومكان، ولقد أمعنت التنظيمات المسلحة في إجرامها بحق هؤلاء بإجبار الذكور من الشبان على الالتحاق بصفوف التنظيم والزج بهم في أتون الحرب ومن يمانع قد يقتل أو يتعرض للاعتقال والتغييب القسري عن أهله ومجتمعه، كما وتتقطع بالغالب سبل الاتصالات الهاتفية فينقطع بهم السبيل إلى معرفة إخبار أقربائهم وذويهم.
وان استخدام المدنيين في النزاعات المسلحة أو منعهم من مغادرة المناطق التي تشهد قتالاً يعد جريمة حرب إذ إن هذا الفعل المشين يتنافى مع القيم الأخلاقية والإنسانية فضلا عن انه يجافي القواعد القانونية الوطنية منها والدولية الخاصة بمنع الاحتجاز عموماً والتأكيد على الأصل العام المتمثل بحرية التنقل فقد ورد في المادة الخامسة عشر من الدستور العراقي لعام 2005 ما نصه لكل فرد الحق في الحياة والأمن والحرية، وأضافت المادة التاسعة عشر انه يحظر الحجز، وعد قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 بالمادة (192) فعل العصيان المسلح ضد السلطات العامة القائمة بموجب الدستور جريمة عقوبتها السجن المؤبد ويصار إلى إعدام الجاني إن أدى الفعل إلى قتل إنسان وهي العقوبة التي حددها قانون مكافحة الإرهاب رقم (13) لسنة 2005 في المادة الرابعة لمن قام بفعل إجرامي تسبب بإلقاء الرعب بين الناس أو عرض حياتهم وحريتهم للخطر، وورد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948 في المادة السادسة ما نصه لا يجوز اعتقال أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفاً وأكد ذلك العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 في المادة التاسعة التي ورد فيها، إن لكل فرد حق في الحرية والأمان على شخصه ولا يجوز حرمان شخص من حريته إلا وفق أسباب ينص عليها القانون.
كما أوردت اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 الخاصة بحماية المدنيين في أوقات النزاعات المسلحة في مادتها الثالثة، بأنه في حالة قيام نزاع مسلح ليس له طابع دولي في أراضي أحد الأطراف السامية المتعاقدة يلتزم كل طرف في النزاع بان يطبق كحد أدنى الأحكام الآتية:
1- الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرة في الأعمال العدائية بمن فيهم أفراد القوات المسلحة الذين القوا عنهم أسلحتهم والأشخاص العاجزون عن القتال بسبب المرض أو الجرح أو الاحتجاز أو لأي سبب آخر يعاملون في جميع الأحوال معاملة إنسانية دون أي تمييز ضار يقوم على العنصر أو اللون أو الدين أو المعتقد أو الجنس أو المولد أو الثروة أو أي معيار أخر، ولهذا الغرض تحظر الأفعال التالية فيما يتعلق بالأشخاص المذكورين أعلاه وتبقى محظورة في جميع الأوقات والأماكن:
أ- الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية وبخاصة القتل بجميع أشكاله والتشويه والمعاملة القاسية والتعذيب.
ب- أخذ الرهائن.
ج- الاعتداء على الكرامة الشخصية وعلى الأخص المعاملة المهينة والحاطة من الكرامة.
د- إصدار الأحكام وتنفيذ العقوبات دون إجراء محاكمة سابقة أمام محكمة مشكلة تشكيلاً قانونياً وتكفل جميع الضمانات القضائية اللازمة في نظر الشعوب المتمدنة.
2- يجمع الجرحى والمرضى ويعتنى بهم، ويجوز لهيئة إنسانية غير متحيزة كاللجنة الدولية للصليب الأحمر أن تعرض خدماتها على أطراف النزاع، وأقرت المادة (27) من الاتفاقية بان للأشخاص المدنيين في جميع الأحوال حق احترام أشخاصهم وشرفهم وحقوقهم العائلية وعقائدهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم ويجب معاملتهم في جميع الأوقات معاملة إنسانية وحمايتهم ضد جميع أعمال العنف أو التهديد وضد السباب وفضول الجماهير، ويجب حماية النساء بصفة خاصة ضد أي اعتداء على شرفهن ولاسيما ضد الاغتصاب والإكراه على الدعارة وأي هتك لحرمتهن.
والملاحظ إن التنظيمات الإرهابية المسلحة في العراق والمنطقة تتجرد من كل المفاهيم الإنسانية أعلاه ولا تلتزم بأي ميثاق أو معاهدة أو اتفاقية دولية وتجعل نفسها في حل من أي قاعدة قانونية وطنية أو دولية ما يستدعي قيام مسؤولية المجتمع الدولي بكل دوله ومنظماته للوقوف بوجه هذا الكيان المارق والسبب في ذلك بسيط إذ انه يهدد الأمن والسلم الدوليين، وقد أشارت المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945 لذلك المعنى بالنص على إن من أهم مقاصد الأمم المتحدة هو حفظ السلم والأمن الدوليين وتحقيقاً لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم وإزالتها وتقمع العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، ومن هذا النص يتبين لنا ان المنظمة الدولية قد تقاعست كثيراً في قمع العدوان الداعشي على حقوق وحريات الإنسان العراقي وغيره من الأشخاص لسنوات خلت وهذا القعود عن أداء الواجب والمسؤولية تسبب بتمدد هذا المرض السرطاني في جسد العالم بشكل خطير وأخذ يضرب بعنف في مختلف الدول دون أن تكون هنالك وقفة جدية تقتلع أسباب وجوده واستمراره من الجذور.
فقد اتخذ مجلس الأمن عدد غير قليل من القرارات على رأسها القرار 2253 لعام 2015 الخاص بتجفيف مصادر تمويل داعش الإرهابي والذي يشكل خطوة مهمة إلى الأمام إلا أن تطبيقه اصطدم بعقبة التخاذل العالمي تجاه هذا التنظيم وجرائمه فالأقمار الاصطناعية والطائرات المسيرة للدول الكبرى ترصد حركة تهريب النفط والآثار من قبل عناصر التنظيم إلا أنها لا تحرك ساكن اتجاهها، بل إن بعض دول المنطقة تعد الممر للتمويل والتسليح لهذا الكيان المجرم ويتبجح قادتها في وسائل الإعلام بأنهم يحاربون التنظيم وأفكاره المنحرفة والنتيجة مزيد من الجرائم ضد المدنيين ومزيد من الضحايا المحتجزون تحت رحمة المقاتلين الأجانب الذين تجمعوا من كل حدب وصوب تحت راية واحدة هي راية الضلال والظلم والقتل والإرهاب.
ومما تقدم نجد إن الحكومة العراقية ملزمة بفتح ممرات آمنة لخروج المدنيين العزل من المدن التي تدور في داخلها رحى الحرب بين الحكومة الشرعية وبين الإرهابيين وإيوائهم في مخيمات تتوافر فيها مقومات الحياة الأساسية أو نقلهم إلى مدن أخرى تمهيداً لعودتهم بعد نهاية النزاع المسلح على أن تكون تلك الأماكن مهيأة لاستقبالهم وتتوافر بها المقومات الأساسية على اقل تقدير، والسعي الجاد لتقديم الدعم الصحي والغذائي اللازم للأسر المحاصرة من قبل الإرهاب وتوفير متطلباتهم حياتهم اليومية الأساسية، كما وان الواجب على السلطات الحكومية والقضائية يستلزم ان تقوم بتحقيق شفاف ومحايد في الجرائم التي ارتكبها الإرهابيون بحق السكان العزل وبذل أقصى ما يمكن من جهد لإلقاء القبض على هؤلاء المجرمين وتقديمهم للعدالة ومحاكمتهم بغية إنزال القصاص العادل بحقهم، والتحرك الجدي على المستوى الدولي والداخلي لمحاصرة الفكر المتطرف الضال واقتلاع أسباب بقائه من الجذور.
ولهذا نجد إن وزارة الخارجية العراقية مدعوة لعقد مؤتمر دولي حول تمويل داعش وتوضيح العوامل المسببة لبقائه أو انتشاره والسر وراء التأثر بأفكاره الإجرامية وتسليط الأضواء على المساعدة الخفية التي تقدمها دول عدة في المنطقة لهذا الفكر المنحرف وفضح الأساليب الخبيثة التي تنتهجها عبر عدد من المنظمات والجمعيات والشركات التي تتولى تسهيل مهمة نقل الأموال والأسلحة للمقاتلين في العراق، والواجب أن تتبنى وزارة الداخلية العراقية وبالتعاون مع الأوقاف الإسلامية والمرجعيات الدينية المعتدلة برنامجاً متكامل للقضاء على الفكر الديني المتطرف وفضح الخطاب الطائفي ومقاصده الخبيثة عبر سلسلة من الفعاليات الشعبية والرسمية التي من شأنها أن تساهم في فضح الطرق الخبيثة التي تنتهجها هذه العصابات في نقل أفكارها المنحرفة التي تسهم في تضليل العديد من الأشخاص ومن عدة دول.