يولد احياناً بعض الأطفال في إنحاء العالم المختلفة وهم مصابون بعوق وراثي يعرف بالمهق أو البرص ولحصول هذه الحالة لابد أن يكون كلا الوالدين حاملاً لجين المهق لينقله إلى الأولاد وان لم يظهر المهق على أحد الوالدين، ولم تسجل إلى الآن أي دولة في العالم تخلو من هذه الإصابات الوراثية، وطبياً ينتج المهق من غياب صبغة الميلانين (Melanin) نتيجة قلة أو انعدام إنزيم تيروزينار (Tyrosinase) فيظهر الاضطراب في لون جلد المولود وشعره وعينيه، ويتسبب ذلك بجعل المولود شديد التأثر بالضوء الساطع لاسيما ضوء الشمس، وبالعادة يكون هؤلاء فاقدين لنعمة البصر بشكل شبه كامل وعرضه للأمراض الفتاكة لا سيما سرطان الجلد، والملاحظ انه لم يكتشف علاج أو لقاح يقي من هذه الحالة الوراثية ما يجعل المهق إصابة مستعصية وشفائه يحتاج إلى تدخل غيبي، وهو ما بينه القرآن الكريم في قصة النبي عيسى عليه السلام الذي كان وبصورة اعجازية يحيي الموتى ويبرأ الأكمأ والأبرص إذ قال تعالى في سورة المائدة (الآية 110) "إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَىٰ وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِي".
وبالعادة المصابون بالمهق ينتشرون في إرجاء البلد بشكل غير منتظم ويتعرض بعضهم للمضايقات وتنتهك بعض حقوقهم وهذه الحالة ليست حكراً على العراق بل أنها تأخذ مدى أخطر في بعض الدول الإفريقية إذ يصل الأمر إلى قتلهم والمتاجرة بأعضائهم وفي بعض الدول الأسيوية تتزايد الخرافات والأساطير حول هؤلاء ويعتقد البعض إنهم أشباح أو شياطين أو حلت بهم اللعنة ويشير الاتحاد الدولي لجمعيات الصليب الأحمر والهلال الأحمر إلى أن سوق المتاجرة بالأطفال المصابين بالمهق أو بأجزاء من أجسادهم رائجة لوجود بعض الخرافات القبلية التي تدعي أن التضحية بهم ترضي الإلهة واقتناء أجزاء من أجسادهم تجلب الحظ السعيد والثروة ووصل الأمر إلى نبش قبورهم واستخراج بعض عظامهم.
في العراق هذه الفئة الاجتماعية لا يستهان بإعدادها إلا إنهم يعيشون في ظروف غاية في الصعوبة نتيجة عدم التقبل الاجتماعي لهم، وان كان الأمر لا يصل بالغالب إلى الاعتداء الجسدي عليهم كما الحال في إفريقيا إلا أن هنالك انتهاكات لحقوقهم واغتصاب لحرياتهم متأتي بالدرجة الأساس من فشل المؤسسات الرسمية والاجتماعية من استيعاب مشاكلهم ووضع حلول حقيقية لها، ففي الوقت الذي يوجب دستور العراق لعام 2005 على المؤسسات الرسمية أن تتحرى المساواة بين العراقيين بلا أي تمييز بسبب الجنس أو اللون...(م14)، ويلزم الدولة بسلطتيها التشريعية والتنفيذية في المادة (32) بان ترعى المعوقين وذوي الاحتياجات الخاصة وتكفل تأهيلهم بغية دمجهم في المجتمع على أن ينظم ذلك بقانون، وبالفعل صدر القانون رقم (38) لسنة 2013، تحت مسمى رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة إلا أن المشرع اخفق في هذه المهمة بشكل ذريع إذ جاءت نصوص القانون ضعيفة في بنيانها القانوني غامضة المقاصد مبهمة في آليات تفعيلها وشابها من الأخطاء الصياغية والنقص ما ينذر بخطر محدق بهذه الفئات المتضررة والتي تعد من أحوج طبقات المجتمع للرعاية، فلم يسمي القانون الفئات المشمولة واكتفى بتعرف ذو الاحتياج الخاص في المادة الأولى بأنه الشخص الذي لديه قصور في القيام بدوره ومهامه بالنسبة لنظرائه في السن والبيئة الاجتماعية والاقتصادية والطبية كالتعليم أو الرياضة أو التكوين المهني أو العلاقات العائلية وغيرها.
ويعتبر قصار القامة من ذوي الاحتياجات الخاصة، والقراءة لهذا النص القانوني توحي بأنه إهانة لهذه الفئة إذ المشرع يتهمه بالقصور وكأنه من تلقاء نفسه خلق هذا القصور وليست الوراثة أو الحوادث جعلت منه مصاباً ثم هل يعد القصور في البيئة الطبية احتياجاً خاصاً أم أن المشرع كان يقصد الصحة فجاء النص على الطب وما علاقة الأخير بالاحتياج الخاص، وكان الأولى بالمشرع أن يضع لنا تعريفاً مختصراً وجامعاً لكل الحالات الموجودة أو التي ستستجد بالمستقبل ونرى أن التعريف الأصح لذي الاحتياج الخاص بأنه الشخص الذي يعاني من عجز كلي أو جزئي دائم سواء أكان ولادياً أم طارئاً من شأنه أن يؤثر على حواسه أو وظائف أجزاء جسمه، فهذا التعريف جامع لكل ذوي الاحتياجات الخاصة كالمصابين بالمهق كونه وراثي ويظهر منذ ولادة الإنسان حياً أو يصاب بحادث معين يؤدي إلى فقد أو الانتقاص من وظائف إحدى حواسه أو أجزاء ومكونات جسمه.
ومرضى المهق يعدون من ذوي الاحتياجات الخاصة بحسب ما انتهت إليه اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بحقوق ذوي الإعاقة لسنة 2006 في مادتها الأولى والتي جرى نصها بالاتي "كل من يعاني من عاهات طويلة الأجل بدنية أو عقلية أو ذهنية أو حسية قد تمنعهم من المشاركة بصورة كاملة وفعالة في المجتمع على قدم المساواة مع الآخرين"، واكتفى المشرع بالقانون رقم (38) بالتأسيس لهيأة مترهلة تغص بالمناصب والدرجات العليا دون أن يلتفت المشرع إلى وضع آليات حقيقية لرعاية هذه الشرائح المهمة بدل إيجاد وظائف تسيل لعاب البعض ممن يعتاش على آلم الآخرين، فلم يلزم المشرع وزارة الصحة مثلاً بإعداد برنامج حقيقي للتعريف بالمهق أو غيره من الإمراض والإعاقات والذي يكون من شأنه إدماج الشرائح المستهدفة بالمجتمع بشكل طبيعي، ثم ورد في المادة (15) البند خامساً أن من التزامات وزارة العمل والشؤون الاجتماعية إصدار التعليمات والضوابط اللازمة لتلبية متطلبات ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة في تصاميم الأبنية والمرافق العامة وتكون ملزمة لدوائر الدولة والقطاع العام والمختلط والخاص ولا ندري لماذا المشرع يعهد لوزارة العمل بمثل هذه المهمة ولا يمنح ذلك لوزارة البلديات المسؤولة أصلا عن منح إجازات البناء وفق قانون إدارة البلديات رقم 164 لسنة 1965 وهذا الأمر لا يزيد المعاناة إلا تفاقماً إذ ستصطدم تعليمات وزارة العمل بالقوانين والأنظمة الأخرى النافذة وتبقى حبر على ورق.
والمؤسف مما تقدم أن المواد (21و22) جاءت بعقوبات تفرض على ذي الاحتياج الخاص أن تبين انه ليس كذلك أو استغل حالته للتسول ونسي المشرع أن يفرض عقوبة على الموظف الذي يماطل في انجاز معاملة ذي الاحتياج الخاص أو يعاقب من يسئ لهذا الشخص ويحط من كرامته وينتقص من حقوقه أو حرياته، وعموماً القانون لم يضع حلولا ناجعة لمشاكلهم ذوي الاحتياج الخاص ولاسيما المصابين بالمهق والتي نستطيع أن نلخص بعضها بالاتي:-
1- انتهاك حقهم في المساواة امام القانون وعدم التمييز بسبب اللون أو الجنس والذي أرساه الدستور العراقي بالمادة (14) وكل المواثيق الدولية ومنها اتفاقية حقوق الطفل لعام 1982 في المادة (42) واتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة لعام 2006 بالمادة (5) بينما هؤلاء وعلى مدار أكثر من عشر سنوات من نفاذ الدستور والى اليوم لم تكفل لهم الحماية ولم يتوفر لهم التأهيل بل نجد التمييز ضدهم في التعليم والمؤسسات الصحية والتربوية فإلى اليوم اغلب الجامعات والمدارس والمستوصفات والمؤسسات الصحية تخلو من التجهيزات اللازمة لهؤلاء وعلى الأقل توفير موقف خاص بهم للسيارات أو توفير وسائط نقل تراعي وضعهم الخاص بل تخلو البنايات من مصاعد أو مرافق صحية تلائمهم.
2- يضطر العديد من المصابين بالمهق إلى ترك الدراسة في سن مبكرة بسبب عدم تفهم المعلم وزملائه التلاميذ لحالته الصحية وضعف بصره الذي يمنعه من رؤية السبورة ربما بشكل واضح، وبسبب كثرة التجريح به والاستهزاء بل والتنكيل من قبل بعض أعضاء هيأة التدريس التي تحط من كرامته وأدميته فتضطره إلى ترك المدرسة، ولو أن الوزارة المعنية وفرت في كل محافظة على الأقل كادراً متخصصاً وبناية مؤهلة لتعليمهم لما اضطروا لذلك.
3- ان توجه أي من المصابين بالمهق إلى سوق العمل يجعله يعاني الأمرين من جانب يجد صعوبات بالغة في التأقلم مع العمل وما يحتاجه من جهد وقوة بدنية قد لا يملكها بسبب حالته الصحية ومن جانب أخر يعزف اغلب الناس عن التعامل معه كونهم يجهلون حقيقة إصابته ويعتقد البعض انه قد يصاب بالعدوى منه في الوقت الذي يعد فيه المهق حالة جينية وراثية وليست مرضية نتيجة المكروبات أو الفايروسات أي انه غير معدٍ بالمرة، إلا أن وزارة الصحة العراقية مثلاً لم تنظم ولو لمرة واحدة برنامجاً تلفزيونياً أو إذاعيا يعرف بالمهق وكيفية التعامل مع المصابين به أو الوقاية من إصابة المواليد الجدد به عند أقدام البعض على الزواج.
4- ان التجأ المصاب بالمهق إلى المؤسسات الصحية في العراق سيجد الروتين القاتل والتعامل البيروقراطي في الوقت الذي يحتاج هؤلاء إلى فحص ومراقبة مستمرة لاحتمالية تعرضهم لإمراض جلدية أو غيرها قد تطيح بحياتهم، فلم توفر أي مستشفى في العراق قسماً أو على الأقل جناح خاص لرعاية هؤلاء بل أن قانون الصحة العامة رقم (89) لسنة 1981 يخلو من الإشارة إليهم بشكل صريح ولا تملك المؤسسات الصحية في أي محافظة إحصائية عن عدد المصابين ومحال سكنهم أو عملهم وهذا الأمر ينذر بخطر محدق.
5- في داخل المجتمع يعاني هؤلاء نتيجة عدم تقبلهم اجتماعياً من اقرأنهم ومما يزيد الأمر سوءً انه لا توجد في الأماكن الترفيهية العامة أو الخاصة العاباً تتلائم مع هذه الشريحة من الأطفال ما يضطر معه ذويهم إلى بذل جهود مضنية في توفير مستلزمات الترويح عنهم، كما أن الدول المتقدمة تفرد طرقاً خاصة وتضع على إشارة المرور علامات خاصة بمناطق عبور ذوي الاحتياجات الخاصة وهو الأمر الذي يفتقد له العراق من شماله إلى الجنوب.
6- احياناً يجد المصابون بالمهق معاناة داخل أسرهم إذ يجدون جفاءً من ذويهم وانتقاصاً من كرامتهم بل قد يصل الأمر إلى تعنيفهم بشكل قاسي ما يجعلهم ضحايا للكبت في البيوت ولا يهتدون إلى المجتمع أو الشارع أو المدرسة فيكونوا صيداً سهلاً لإمراض نفسية وعقد سلوكية غاية بالقسوة.
وفي الوقت الذي ينبغي أن يتمتع المصابون بالمهق بالحق في المساواة في التعليم والعمل والعيش الكريم نجد أن أوضاع هذه الشريحة وكأنها تسير عكس التيار فعلى سبيل المثال ألزمت المادة (6) من العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966 جميع الدول بان تكفل حرية العمل والتساوي بالأجر وحرية الاستمرار بالعمل دون أي تمييز بسبب اللون أو الجنس والوقع يقول إنهم مهمشون في سوق العمل محرومون من الأمن الإنساني في العيش الكريم إذ يطلب أرباب العمل بالغالب الأصحاء ويسرحون غيرهم بلا رقابة حكومية أو نقابية على ذلك.
وفي الختام لنا أن نخلص إلى مجموعة من التوصيات وأهمها الآتي:
1- أن يصار إلى التأسيس لرياض أطفال ومدارس في كل محافظة عراقية مجهزة بكل احتياجات المصابين بالمهق أو غيرهم من ذوي الاحتياجات الخاصة مدمجة مع أطفال آخرين أصحاء لتهيئة الطرفين ليتقبل كل منهما الأخر بمساعدة خبراء في الجوانب النفسية والاجتماعية والتربوية.
2- تنمية مهارة الطفل المصاب بالمهق وصقل مواهبه وخبراته بحسب إمكانياته بعد إخضاعه لبرنامج للكشف المبكر عن استعداداته الذاتية وتخمين ما سيؤول إليه في المستقبل على المستوى الدراسي أو العمل الذي يتمكن من ممارسته.
3- استحداث أقسام طبية متكاملة في المستشفيات الرئيسية في كل محافظة مجهزة بكل الأجهزة والمعدات اللازمة للكشف عما يعانيه المصابون بالمهق ومسك سجل يدون فيه وبشكل دقيق المعلومات اللازمة عن هذه الشريحة، وعلى أن يسبق ذلك تعديل لقانون الصحة العامة رقم (89) لسنة 1981 يتضمن التأسيس لمستشفيات عامة أو خاصة تختص بشريحة ذوي الاحتياجات الخاصة.
4- تبني الحكومة العراقية وعن طريق الوزارات المعنية كالصحة والتخطيط والعمل والشؤون الاجتماعية سياسة عامة للتعريف بالمهق والحد من انتشاره بإخضاع أفراد الأسر الذين يتوارثونه لفحص دقيق قبل الزواج ونشر ثقافة اجتماعية عامة يعاد من خلالها إدماج هؤلاء اجتماعياً.
5- إعادة النظر بقانون رعاية ذوي الاحتياجات الخاصة رقم (38) لسنة 2013 بشكل يضمن اعتماد تدابير حقيقية لحماية حقوق المصابون بالمهق وذوي الاحتياجات الخاصة عموماً وتجريم الممارسات غير القانونية أو الأخلاقية ضدهم ومنع استغلالهم ومعاقبة كل من يدعي انه يطلب التفرغ لرعاية أحدهم ويتبين العكس كما وندعو المشرع العراقي إلى عد الاعتداء على هذه الشريحة ولو بالقول جرماً يستحق مرتكبه العقاب.
6- ضمان حق المصابين بالمهق في الحصول على التعويض العادل من الدولة ومؤسساتها وعبر القضاء المختص في حالة ثبوت تقصير أو إهمال في التعامل معهم أو التسويف والمماطلة في انجاز معاملاتهم وتلبية احتياجاتهم والنص صراحة على معاقبة الموظف أو المكلف بخدمة عامة المسؤول عن ذلك اداريا وجزائياً وتحميله جزء من التعويض بمقدار نسبة خطأه الشخصي.
7- التأسيس لمنظمات مجتمع مدني راعية لحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة والمصابين بالمهق بشكل خاص تأخذ على عاتقها رصد المخالفات والانتهاكات لحقوقهم وتتبنى رفعها إلى الجهات المختصة في داخل العراق وخارجه.