مقالات

الحقوق الاقتصادية في عهد الإمام علي (ع)

   هناك تأثير مباشر للاقتصاد على حياة الأفراد والجماعات والدول، فكلما تحسن اقتصاد الفرد أو الجماعة أو الدولة تحسنت ظروف الحياة عامة، وحصل المواطنون على حقوقهم الاقتصادية وحقوقهم وحرياتهم الأخرى، وعاش الناس حياة آمنة ومستقرة. وهذا واضح في الدول التي تملك اقتصادا قويا ومستقرا، حيث يعيش سكانها حياة مرفهة إلى حد ما، ويحصلون على حقوقهم كاملة، ويقصدها الناس من كل حدب وصوب بغية العيش فيها، والحصول على تلك الحقوق، لاسيما الحقوق الاقتصادية.

وكلما ضعف اقتصاد الفرد أو الجماعة أو الدولة تدهورت الحياة عامة، وانتهكت حقوق المواطنين الاقتصادية وحقوقهم وحرياتهم الأخرى، وعاش الناس حياة الفقر والجوع والخوف.. وهذا واضح في الدول التي تملك اقتصارا هشا ورخوا، حيث يعيش سكانها فقراء إلى حد ما، ولا يكادون يحصلون على حقوقهم الاقتصادية وحرياتهم، وهم يتطلعون إلى هجرتها كلما سنحت لهم فرص المغادرة. حيث إن الوضع الاقتصادي الضعيف يؤدي إلى البطالة، والبطالة تؤدي إلى الفساد الأخلاقي، والفساد الأخلاقي يؤدي إلى السرقة والقتل والاختلاس، وزيادة نشوء الميليشيات المسلحة، والعصابات، وشبكات التخريب... وغيرها.

فماذا نعني بالحقوق الاقتصادية من منظور حقوق الإنسان؟ وما تأثيرها على الإنسان إن فُقدت في المجتمع، أو تمتع بها بعض الناس دون الآخرين؟ وما هو واجب الدولة (الحكومة) إزاء توفير الحقوق الاقتصادية لمواطنيها؟

تاريخيا نريد أن نستحضر منهج الإمام علي عليه السلام في رعاية الشؤون الاقتصادية لمواطني الدولة الإسلامية يومذاك.

يصنف المختصون في مجال حقوق الإنسان الحقوق إلى ثلاث فئات من حيث ظهورها، وهي: الفئة الأولى هي: الحقوق المدنية والسياسية، ومن هذه الحقوق: الحق في الحياة والحرية والأمن، وعدم التعرض للتعذيب، والتحرر من العبودية، والمشاركة السياسية، وحرية الرأي والتعبير والتفكير والضمير والدين، وحرية الاشتراك في الجمعيات والتجمع، وحرية التنقل والإقامة، واللجوء، وحق الملكية، وحق المشاركة في إدارة الشؤون العامة وغيرها.

والفئة الثانية هي: الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومن هذه الحقوق: العمل، والتعليم، والمستوى اللائق للمعيشة، والمأكل، والمأوى، والرعاية الصحية وغيرها. والفئة الثالثة هي: الحقوق البيئية والتنموية، ومن هذه الحقوق: الحق في السلام، الحق في التنمية، الحق في البيئة النظيفة، الحق في الهدوء، والحق في الإغاثة عند الكوارث الكبرى وغيرها.

يهدف العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966) إلى حماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بما فيها: التحرّر من التمييز، والحقّ في المساواة بين الرجل والمرأة، والحق في العمل، وحرية اختيار العمل والقبول به، والحقّ في ظروف عمل عادلة ومؤاتية، والحق في تكوين نقابات عمالية، والحق في الإضراب، والحق في الضمان الاجتماعي، وحقّ الأمّهات في الحصول على حماية خاصة قبل الولادة وبعدها، وتحرّر الأطفال من الاستغلال الاجتماعي والاقتصادي، والحقّ في مستوى معيشي لائق، والتحرّر من الجوع، والحق في الصحة، والحق في التعليم، وحرّية الأهل في اختيار تعليم لأطفالهم، والحق في المشاركة في الحياة الثقافية، والحقّ في التمتع بفوائد العلوم، وحقّ المؤلّفين في المصالح المعنوية والمادية المترتبة على أعمالهم، وحرية البحث العلمي والنشاط الإبداعي.

والحقوق الاقتصادية التي هي جزء من فئة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هي: مجموعة الحقوق المتصلة بالنشاط الاقتصادي، بكل جوانبه ومجالاته الفردية والجماعية لبلوغ الحياة الكريمة، لما ينتج عن هذا النشاط من ثروات مادية. ومن أمثلة الحقوق الاقتصادية: الحق في العمل؛ ويتفرع عن هذا الحق (الحق في الأجر، والحق في تكوين النقابات، وحق الإضراب، والحق في الحماية والأمن من الأمراض المهنية، وحق الضمان الاجتماعي، والحق في الراحة...) وحق الملكية؛ ويتفرع عن هذا الحق (الحق في الرهن والإيجار، والبيع والشراء، والحق في الإرث وكل ما يتعلق بحرية النشاط الاقتصادي.)

لا يتطلب العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من الحكومة القيام على الفور بإطعام وأكساء وإسكان مواطنيها، ولكنه يطالبها باتخاذ خطوات نحو الإعمال الكامل لتلك الحقوق وتفادي أي تدابير من شأنها الانتقاص من تلك الحقوق وحظر التمييز فيما يتعلق بتلك الحقوق. وعليه يمكن القول إن الالتزامات الواقعة على الدول فيما يتعلق بالحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية هي التزامات إيجابية، بما يعنيه ذلك من ضرورة بذل الدول لجهود معينة حتى تكفل للمواطنين فرص عمل مناسبة، فضلا عن توفير المسكن والغذاء والكساء والتعليم والرعاية الصحية المناسبة إلى غير ذلك من المتطلبات اللازمة للحياة الكريمة واللائقة لمواطنيها. وهو ما يفيد بأن للأفراد الحق في مطالبة السلطات الحاكمة بأن تقدم لهم يد العون والمساعدة، وأن توفر لهم كل ما هم بحاجة إليه لكي يعيشوا حياة لائقة وكريمة.

كان للإسلام في عهد الإمام علي (عليه السلام) تجربة ناجحة في تثبيت الحقوق والحريات عامة، والحقوق الاقتصادية خاصة، سواء في الحد من الفقر، أو إيجاد فرص العمل، أو توفير الضمان الاجتماعي الحكومية، أو إصلاح المهن والحرف الصناعية وتطويرها يومذاك. في هذا المقال نتحدث عن ثلاثة حقوق اقتصادية كان قد تعامل معها الإمام علي عليه السلام بمنتهى العدالة والإنصاف، مما يوفر بيئة اجتماعية آمنة ومستقرة لمواطني الدولة الإسلامية آنذاك. وهذه الحقوق هي حق المواطنين في خزينة الدولة، وحق المواطنين في توفير فرص عمل لائقة، وحق المواطنين في الحصول على الضمان الاجتماعي.

1. حق المواطنين في خزينة الدولة:

للدولة ميزانية مالية، تشبه إلى حد معين ميزانية الأسرة، فالأسرة لها مدخولات تأتي في الغالب من العمل أو من المشروعات الخاصة، وتنفقها في تلبية حاجاتها الأساسية مثل: السكن، الغذاء، علاج الأطفال، الوقود، وغيرها وأخرى. والدولة كذلك لها مدخولات تأتي من مواردها الطبيعية، ومن الرسوم والضرائب والمشروعات والخدمات وغيرها. وتنفقها في موارد اجتماعية واقتصادية ضرورية لا يمكن لمواطنيها أن يقوموا بها كالتربية والتعليم (مثل أجور المعلمين) والصحة (المشاركة في تمويل السلة الصحية) وعلى الأمن، وعلى الاستثمار وإقامة البنى التحتية – تطوير الشوارع، بناء المؤسسات التعليمية، الاستثمار في الموانئ، منشآت تحلية المياه وأخرى.

إلا أن أكثرية الحكومات لا تلتزم بما عليها من نفقات إزاء مواطنيها، وتفضل بعض المواطنين على آخرين بطرق قانونية وغير قانونية، وتصرف الأموال هنا وهناك دون النظر إلى الطبقات الفقيرة والمستحقة. وهذا هو ديدن الحكومات كلها حتى الوقت الحاضر، سواء كانت إسلامية أو غير الإسلامية.

ولكن نهج علي عليه السلام كان مختلفا تماما فهو في الوقت الذي كان يأمر عماله وولاته أن يحتاطوا في صرف المال العام - حتى في كتابة التقارير التي يرسلونها إليه - فكان يدعوهم إلى عدم تعريض رأس القلم حتى لا يزيد صرف الحبر، والى مقاربة السطور كي لا يزيد صرف الجلود، والى عدم تطويل الكلام بالفضول، فقد ورد عنه عليه السلام (أدقوا أقلامكم، وقاربوا بين سطوركم، و احذفوا عنِّي فضولكم، واقصدوا قصد المعاني، وإياكم والإكثار؛ فإن أموال المسلمين لا تحتمل الإضرار) وكان عليه السلام ينهى عن الجود والكرم بالأموال العامة، فكان يقول (جود الولاة بفيء المسلمين جور وخَتْر، أي غدر).

فقد كان الإمام علي عليه السلام، يوزع أموال بيت مال المسلمين على المسلمين كافة، حيث أعلن الإمام عليٌّ عليه السلام إلغاء التمايز الطبقي بكلِّ أسبابه، وعهد إلى التسوية بين الناس في العطاء، فالناس عنده سواسية كأسنان المشط، وانقطعت آمال الطبقة الغنية التي لم تنظر للدنيا إلا في منظار مادِّي. فقال عليه أفضل الصلاة والسلام (ألا لا يقولنَّ رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا، فاتَّخذوا العقار وفجَّروا الأنهار وركبوا الخيول الفارهة، واتَّخذوا الوصائف الروقة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينتقمون ذلك ويستنكرون، ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا!).

وقد ورد انه علم تَصرُّف أحد ولاته بمال المسلمين بغير حق فأرسل إليه: (فسبحان الله أما تؤمن بالمعاد؟ أو ما تخاف نقاش الحساب؟... كيف تُسيغ شراباً وطعاماً، وأنت تعلم أنك تأكل حراماً، وتشرب حراماً..‍. فاتق الله وأردد إلى هؤلاء القوم أموالهم فأنك إن لم تفعل، ثم أمكنني الله منك، لأُعذَرَنَّ إلى الله فيك، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربتُ به أحداً إلا دخل النار).

2. حق المواطنين في توفير فرص العمل اللائقة:

يعد الحق في العمل من أهم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية؛ فهو من الحقوق الاقتصادية، لأنه يؤمن الفرد ماديا واقتصاديا ويوفر له متطلبات معيشته. وهو من الحقوق الاجتماعية لارتباطه الوثيق بالمجتمع، ولان رقي المجتمع وتطوره ونهوضه موقوف على ممارسة هذا الحق. والحق في العمل يكفل عدم استبعاد أي فرد من الحياة الاقتصادية. وتشير الدساتير والقوانين الوطنية والدولية إلى حق المواطن في الحصول على فرصة عمل، حيث تكفل المادة "23" من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لكل شخص "حق في العمل، وفي حرية اختيار عمله، وفي شروط عمل عادلة ومرضية، وفي الحماية من البطالة".

يُعد العمل من الناحية الدينية معيارا لمبدأ الثواب والعقاب، ويُعد من الناحية الاجتماعية عنصرا رئيسا لاحترام الشخص ومقبوليته لدى الناس. ومن الناحية الاقتصادية يضع العمل الشعوب التي تعمل في قمة الرفاهية، ويحقق لها السلم الأهلي، والأمن الاجتماعي. ويضع حدا للفساد الأخلاقي، ويسهم في تثبيت العزة والكرامة والسيادة، لأي شعب من الشعوب، وينعكس كله على حياة الفرد العادي إيجابا.

لذلك نلاحظ أن الإسلام وضع إطارا خاصا للعمل ونظامه، كما نجد ذلك في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام)، فمفردة العمل في الأحاديث الشريفة والآيات القرآنية تأتي مع مفردات أخرى، مثلا العمل مع الإيمان، العمل مع التقوى، العمل مع العلم، العمل الصالح، كذلك العمل والآخرة، والعمل والأجل (الموت)، العمل والرزق الحلال أو الحرام، العمل والجهاد، العمل والشكر، العمل والتوكّل، وهناك مفردات أخرى. فالعمل هو من متطلبات أو ضرورة من ضرورات الإسلام، حيث يحدد العمل شخصية الإنسان من خلال (الأطر والمبادئ التي يعمل بها، والوسائل التي ينتهجها في عمله، والغايات التي يتجه نحوها)، هذه الجوانب الأربعة نعرف من خلالها هوية العمل، ومدى هدفية هذا العمل.

عن الإمام علي (عليه السلام): (فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح بالقصد فيما تجمع وما ترعى به رعيتك)، والذخيرة هو الخزين الذي يجمعه في الدنيا وصولا إلى الآخرة، فالإنسان الذي تكون أعماله في الإطار الصالح والصلاح والورع واليقين، فهو بالنتيجة يختزن لنفسه في الدنيا أيضا، وكذلك يختزن بشكل أكبر وأعظم للآخرة، لذا يقول الإمام (فليكن أحب الذخائر إليك) ومن مقولاته عليه السلام، إنه قال (العمل رأس المنافع) لأن العمل يحرك عجلة الحياة، وعليه فله الأولوية القصوى في سياساته الاقتصادية والاجتماعية، وصولا إلى مجتمع مزدهر، يعيش حالة الرفاهية.

3. حق المواطنين في الضمان الاجتماعي الحكومي:

يتوجب على الدولة التي تحترم حقوق مواطنيها أن تلتزم بتوفير الضمان المالي لكل مواطن غير قادر على العمل مثل المعاقين أو ذوي الحاجات الخاصة، أو لكل مواطن كان قادرا على العمل، ولكن لم يعد كذلك بسبب العمر أو الضعف أو العوق، أو لكل مواطن قادر على العمل ولكن لا توجد له فرصة عمل لائق.

وكان الإمام علي قد التفت إلى موضوعة توفير الضمان المالي في حادثة تاريخية معروفة، فقد روي أن الإمام علياً كان يمشي يوما على سكك الكوفة، فنظر إلى رجل يستعطي الناس فوجه الإمام سؤالا إلى من حوله قائلا: ما هذا؟ فقالوا: إنه نصراني كبر وشاخ، ولم يقدر على العمل، وليس له مال يعيش به، فيكتنف الناس. فقال الإمام بغضب: استعملتموه على شبابه حتى كبر تركتموه؟ فجعل الإمام لذلك النصراني من بيت مال المسلمين مرتبا خاصا يعيش به.

ذهب الإمام إلى أن القيام بحق الضمان الاجتماعي من واجبات الحاكم الأساسية، إذ يقول في عهده للأشتر محدد أهم واجباته بـ" استصلاح أهلها"، ويقول (ع): "حقا على الوالي إلا يغيره على رعيته فضل ناله ولا طول خص به وان يزيده ما قسم الله له من نعمة دنواً من عباده وعطفا على إخوانه. ويجعل الإمام من تعزيز حق الضمان الاجتماعي احد محاور حركته السياسية إذ يقول(ع) : "اللهم انك تعلم إني لم أرد الإمرة ولا علو الملك والرئاسة وإنما أردت القيام بحدودك والأداء بأجمعها".

وقد كان (ع) بعد وصوله إلى سدة الحكم، أمينا لما دعا إليه من ضرورة صيانة حق الضمان الاجتماعي مجسدا لوصف الرسول (ع) لحكم وشخص الإمام بأنه "أرأفهم بالرعية، إذ أصدر (ع) ما يمكن أن نطلق عليه وثيقة حق الضمان للطبقات الضعيفة في المجتمع قائلاً: "الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيله لهم والمساكين والمحتاجين وأهل البؤسي والزمني فإن في هذه الطبقة قانعا ومعترا...".

 

http://ademrights.org

ademrights@gmail.com

https://twitter.com/ademrights

اشترك معنا على التلجرام لاخر التحديثات
https://www.telegram.me/
التعليقات