مقالات

حقوقي تساوي التزاماتي

يعاني مواطنو بلداننا في مجالات الحقوق والحريات من مشكلات عديدة، أولها: عدم وجود ثقافة معرفية بماهية تلك الحقوق وكيفية التعامل معها والدفاع عنها، مما يُنذر بخطر مصادرتها من الآخرين ويقلل من قدرات أصحابها في الدفاع عنها والتصدي لمنتهكيها.

ففي الحياة العملية تٌنتهك حقوق وحريات حوالي (90%) من المواطنين يوميا؛ لان عموم المواطنـين لا يعـرفون حقوقهم أو لا يعرفون وسائل الدفـاع عنها، بيـنما ينتهك (90%) من المواطنين حقوق الآخرين يوميا؛ لانهم لا يعرفون تلك الحقوق أو يعرفونها ولكنهم لا يؤمنون بها.

وثانيها: إن مفهوم الحقوق والحريات في بلداننا مفهوم أحادي الجانب، فالمواطن ينظر إلى حقوقه نظرة موسعة لا تحدها حدود ولا تُقيدها قيود، فكل شيء مباح له وفي خدمته، بينما لا يرى للآخر إلا حقوقا هامشية ولا يهمه إن تمتع أو لم يتمتع بها. وبهذا المفهوم الاحادي الواسع للحقوق، ينتزع المواطن ما له ويصادر ما لغيره من الحقوق والحريات دون أن يحاسب نفسه أو يجد من يحاسبه..

هذا المفهوم اللامعرفي المتطرف الذي يؤمن بالحقوق وحدها ولا يؤمن بما يقابلها من التزامات للغير، أو يؤمن بالتزامات الغير ولا يؤمن بحقوق الغير اتجاهه إنما هو مفهوم منفلت وكيفي ولا يصلح للعيش المتكافئ السلمي المشترك، لان معيار الحقوق لوحده ليس معيارا سليما لبناء علاقات اجتماعية إيجابية، كما أن معيار التزامات والمسؤوليات بدون حقوق ليس معيارا سليما لبناء مجتمع متكافل اجتماعيا.

ففي العلاقات الأسرية، عندما نأخذ الرجل مثالا، ونقيس فهمه لحقوقه وحرياته بالمقارنة مع فهمه لحقوق المرأة وحرياتها، نجد أن الرجل يعتقد اعتقادا جازما أن الحق معه دائما، وهو ملاصق له لا يفارقه ولا يخالفه، وما يزيد الطين بله أن كثيرا من النساء يعتقدن ذلك أيضا، ويمارسن هذا الاعتقاد مؤمنات طائعات.

وبناء عليه، فمن أبجديات العلاقة بين الرجل والمرأة في نطاق الأسرة أن تعرف المرأة مثلا أن حق زوجها مقدم على حقها في كل الأحوال، بل حق زوجها هو محور الذي تدور عليه حقوقها وحرياتها، فان فقد الرجل تلك الحقوق كان من الطبيعي أن تفقدها المرأة مازالت باقية في إطار تلك العلاقات الأسرية.

وفي علاقات العمل، تختلف موازين الحقوق والحريات بين أن يكون العامل عاملا في القطاع الخاص وفي الشركات والمكاتب الأهلية، وبين أن يكون العامل عاملا في مؤسسة من مؤسسات الدولة، والحال أن العامل هو واحد من حيث الحقوق والواجبات وإن اختلف محل عمله ومكان إقامته، ففي الوقت الذي يُطالب العامل بأقصى درجات الانضباط والالتزام في المؤسسات غير الحكومية مقابل أجور زهيدة ليست مضمونة ولا مؤمنة، نجد أن موظفي الدولة يتمتعون بحقوق مالية جيدة وضمانات تقاعدية مقبولة لقاء أنشطة تشغيلية روتينية لا ترتقي إلى مستوى الأعمال المفيدة للمجتمع.

وفي مجال علاقات رجال الأعمال والتجار بالدولة نرى أن التجار يطالبون بتشريع قوانين وأنظمة تعزز حقوقهم وحريتهم الاقتصادية وتضمن لهم ربحا وفيرا، ويسعون إلى تخفيض الضرائب والرسوم على البضائع والسلع المستوردة كحق من حقوقهم التجارية، بينما لا يفكر هؤلاء التجار والمستوردون بحقوق المستهلكين والمتبضعين، ويغرقون الأسواق والمتاجر بالبضائع والسلع غير صالحة للاستهلاك المحلي؛ حيث تشير إحصاءات الأمن الاقتصادي إلى أن المواطنين يتعرضون يوميا إلى عشرات من حالات الغش والتدليس من التجار وأصحاب المحال التجارية دون أن يجدوا من يحميهم أو يدافعوا عنهم إلا نادرا..

وفي العلاقات العامة والإعلام يمارس الإعلاميون أبشع أنواع الاعتداء على حقوق المواطنين الآخرين من ضحايا الإعلام والدعاية المضللة، وينشرون غسيل الناس في وسائلهم الإعلامية ويبتز الكثير منهم ضحاياها دون رقابة من الهيئات الرقابية العامة، بينما نجد حقوق وحريات الإعلاميين مقدسة ومصونة لا يجرؤ أحد على انتهاكها، ومن يفعل فان الإعلام والقضاء والبرامج سيوف مسلطة حتى يعود الحق لأهله.

وفي علاقات الحاكمين بالمحكومية نجد أن الحاكمين يعتقدون أن حقوقهم وحرياتهم وامتيازاتهم مقدمة على حقوق وحريات شعوبهم، هذا الفهم للحقوق والحريات السياسية ليس مقصورا على أولئك الذين تأمروا وتسيدوا البلاد أبا عن جد كما في الممالك والإمارات، وليس عند أولئك الذين قعدوا على كرس الحكم بالثورات والانقلابات وعرضوا أنفسهم وذويهم لخطر المغامرة، بل عند أولئك الذين تقلدوا المناصب الحكومية بالانتخابات الحرة، فهؤلاء أيضا يرون أنهم أحق من غيرهم في الحصول على الحقوق والحريات والمكاسب والمغانم، أما حقوق مواطنيهم وحرياتهم فان كانت تصب في مصالحهم دافعوا عنها وأيدوها وإن كانت تخالفهم سكتوا عنها وغضوا الطرف. فعلى سبيل المثال نجد أن أعضاء البرلمان العراقي المنتخب يتفقون بالإجماع على تمرير القوانين التي تخص حقوقهم المالية والتقاعدية والمعنوية، بينما يختلفون اختلافا كبيرا في سن القوانين التي تخص ناخبيهم ومؤيدهم.

من هذا كله، يتضح أن هناك خللا واضحا في بنية الحقوق والالتزامات المجتمعية في بلادنا. وهذا الخلل ناجم من عدم وضوح الرؤية الحقوقية عند مواطنينا في حدودها المعقولة مما يعني وجود رغبة في التوسع في طلب الحقوق الفردية من جهة تقابلها رغبة عن الوفاء بالتزامات المجتمعية المترتبة على التمتع بتلك الحقوق من جهة ثانية.

إن إحداث إصلاح في بنية العلاقات الحقوقية وتحديد ما للمواطن من حقوق وما عليه من واجبات، لا يجب أن يقتصر على نصوص الدستور وقوانين حقوق الإنسان الوطنية والدولية، لأنها في الغالب تظل حبرا على ورق، ولا في إيجاد مؤسسات حقوقية تدافع عن تلك الحقوق- وإن كانت تلك مقدمة هامة للإصلاح- إنما يجب العمل على تبني منظومة فكرية وثقافية وقانونية تتضافر فيما بينها للوصول إلى هدف استراتيجي واحد وهو أن المواطن - وفي أي دائرة من دوائر العلاقات الاجتماعية - أصبح يعرف حقوقه جيدا كما أصبح يعرف حقوق الآخرين جيدا، وهو يمتلك وسائل الدفاع عنها إذا ما تعرضت للانتهاك، وأن المؤسسات العامة تسنده وتعزز رغبته في الحصول على حقه. وأصبح المواطن سواء كان مواطنا عاديا أم مسؤولا لا يجرأ أن يتجاوز على حقوق الآخرين لان المواطنين والمؤسسات الخاصة والعامة ستفرض عليه عقوبات أخلاقية واجتماعية ودينية تبعده عن منظومة المواطن الصالح وتقربه من منظومة المواطن غير الصالح.

من هنا فأن تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي يتطلب القيام بعدة أمور أهمها:

1- وضع منظومة فكرية وثقافية وقانونية متكاملة تحدد حقوق المواطن من جهة والتزاماته وواجباته من جهة ثانية تحديد دقيقا مجدولا. وتشمل هذه المنظومة الحقوقية القيم والبنى الذهنية والسلوكية والتراث الثقافي والتقاليد والأعراف المنسجمة مع مبادئ حقوق الإنسان ووسائل التنشئة التي تنقل هذه الثقافة في البيت والمدرسة والعمل والهيئات الوسيطة ووسائل الإعلام.

2- إن تعليم ونشر ثقافة حقوق الإنسان، في واقع الأمر، يشكل حقا أصيلا من حقوق الناس، وتعتبر مسؤولية الحكومة في هذا الصدد مسؤولية كبرى في الترويج والتعريف بمبادئ حقوق الإنسان وآليات حمايتها ونشر ثقافتها من خلال تأسيس مراكز لتعليم الحقوق والواجبات المجتمعية في كل دائرة مجتمعية يتواجد بها المواطنون باختلاف مستوياتهم ومراتبهم، فعلى سبيل المثال نحن بحاجة إلى تأسيس مراكز حقوقية في المؤسسات التربية تحدد حقوق الاستاذ والتزاماته ازاء الطلبة، وتحدد حقوق الطلبة والتزاماتهم ازاء الاستاذ. ونحن بحاجة إلى مراكز لتعليم الحقوق في المؤسسات الامنية والشرطة والجيش، تحدد حقوق هذه الاجهزة وواجباتها إزاء المواطنين، وهكذا..

3- تفعيل القوانين المجتمعية أو تشريع قوانين تعزز تلك الحقوق وتحدد وسائل الدافع عنها، فيكون تصرف المواطنين مع المواطنين الآخرين منبثقا من تلك القوانين الحقوقية ومحكوما بها بما يجعل المواطنين جميعا مطمئنين أن الحارس والحافظ لحقوقهم يقظ لا تأخذه هيبة معتد ولا عزة منتهك، ينتزع الحق من غير أهله ولو كانوا أعزة، ويُرجع الحق لأهله ولو كانوا أذلة.

4- تأسيس ودعم مراكز الدفاع ومساعدة ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان والعيادات القانونية سيما الفئات الضعيفة كالأطفال والنساء والمعاقين والشيوخ وتشجيع المنظمات غير الحكومية لتبني مثل هذه المراكز وتنشطها.

اشترك معنا على التلجرام لاخر التحديثات
https://www.telegram.me/
التعليقات