مقالات

التوازن بين الواجبات الحكومية والمبادرات الاجتماعية

   العمل التطوعي عمـل إنساني لـه جـذور عميقـة في الـروح البشـرية، ولـه تأثــير اجتمــاعي وثقــافي بعيــد المــدى لدى كل الشعوب والأمم بثقافاتها المتعددة. فالاســتماع للآخريــن، والاهتمام باحتياجاتهم والاستجابة لها دليل على أنبل الدوافـع الإنسـانية. وبطبيعة الحال؛ فالمجتمعات الأهليـة مـا فتئـت ترعـى أفرادهـا الأكثر ضعفا والأكثر عرضـة لـلأذى. ومعظـم الأديـان تؤكـد القيم الأساسية لرعايـة الفقـراء والمرضـى والمحرومـين والأرامـل والأيتـام. وبعـض الأديـان يتجـاوز المخلوقـات البشـرية بمظـاهر عطفــها وتعاطفــها لتشــمل الطبيعــة برمتــها.

وهــذه التقـــاليد العريقـة، الـتي تعـود جذورهـا إلى عـهد لا ترقـى إليـه الذاكـرة، لا تزال تنبض بالحياة والحيوية في عالمنـا المعـاصر. فقيـم رعايـة الآخرين واقتسام مـا لدينـا ليسـت إحـدى مخلفـات الحنـين إلى الماضي، وليست شيئا محكوما عليـه بـأن يصبـح أمـرا غـير ذي بال على نحو متزايد، نتيجة ازديـاد الطـابع المعقـد للمجتمعـات التي تجابه تحديات التحضير والتنمية والعولمة، بل رعايـة الآخريـن واقتسام ما لدينا معهم هما عمل ضروري، وليس عملا خيريا.

ويتخذ العمل التطوعي أشكالا كثيرة. فابتداء بتقـديم الدعــم مــن فــرد لآخــر علــى المســــتوى الشـــخصي وانتـــهاء بالخدمـات الأهليـة، ومـن الدعـم المتبـادل في مجموعـات العـون الذاتي إلى المشاركة في حركات وحملات ذات قاعدة واسعة، نــرى العمــل التطوعــي يتنــوع بتنــوع الترعــة الخلاَّقـــة لـــدى المتطوعـين، وتنـوع طـابع المحيـط الوطـني، وحجــم المشــكلات.

والعامل المشترك في هذا التنوع هو أن العمـل التطوعـي الـذي يجـري في عـالم يكتنفــه الغمــوض والخطــر يوفــر قــاعدة قويــة لإقامة صلات بين أُناس تزداد الشقة اتساعا بينـهم مـن حيـث الـثروة والثقافـة والديـن والعـرق والســن ونـوع الجنـس. ففـــي عصـر باتــت الاتصـالات فيـه اتصـالات فوريـة، وبــات يسـوده وعـي بما يجري على الصعيد العالمي، لم يتقلص اعتماد المجتمـع على القوة الشافية للعمل الملهم الملتزم في سبيل الصالح العام.

والعمـل التطوعــي يعــود بمنــافع كبـيرة علـــى الأفــراد والمجتمعات الأهليــة، ويســاعد في تغذيــة وإدامــة بنيــة اجتماعيــة أكــثر ثــراء وأقــوى إحساســـا بالثقـــة، والتلاحم المتبادلين. ويشكل العمل التطوعي ذخيرة هائلة مـن المـهارات والطاقـة والمعـارف المحليـــة الــتي بوســعها أن تســاعد الحكومات على القيـام بـبرامج وسياسـات عامـة أكـثر تركـيزا وكفاءة وشفافية، وتقوم على قاعدة أوسع مـن المشـاركة.

ويعتـبر العمـل التطوعـي عنصـرا مـهما لإنجـاح التنميــة الاجتماعية التي تحقق زيادة في الموارد، وحل المشاكل، وتحسـين نوعية الحياة للجميع. وتستطيع الحكومات ومن خلال قيامها بـدور عملـي أن تؤثـر بشـكل إيجــابي في مســتويات المشــاركة التطوعية في المجتمع الوطني. ولكـن العكـس صحيـح أيضـا. إذ تواجــه الحكومــات مــن خــلال إغفالهــا للعمــل التطوعـــي في تصميم وتنفيذ السياسة الاجتماعية خطـر إغفـال مـورد وطـني غـير عـادي وأن تقـوض دون علـم منـــها التقــاليد الاجتماعيــة.

إذ أن العمل التطوعي يقل زخمه في المجتمع مع تراجع أمرين:

1. انهيار القيـــم المجتمعيـــة الأساسـية والمعايـير والعلاقـــات الاجتماعيــة مما يضيق من نطـاق العمـل التطوعــي. ففــي الحــالات الــتي تتفكــك فيــها الروابــط الاجتماعيــة، يميـــل النـــاس للاهتمـــام بأنفسـهم بـدلا مـن التفكـير بـالآخرين. وبــالمثل، فــإن العمــل التطوعـي يمكـن أن يكـون بمثابـة مصـدر رئيســي مــن مصــادر المصالحـة وإعـادة البنـاء في المجتمعــات المقســمة، ولاســيما إذا كــان العمــل التطوعــي يتجـــاوز الحواجـــز العرقيـــة والدينيـــة والعمرية وحواجز الدخل ونوع الجنس.

وينبغي لإعـادة الثقـة أو بنائها أن تكون أحد التدابـير الرئيسـية المتعلقـة بالسياسـات في أي حالـة مـن حـــالات مــا بعــد انتــهاء الصــراع، لأن هــذا سيشجع على التضامن، وعلى العمل التطوعي، الذي هو أحـد مظاهر التضامن.

2. عدم الاعتراف الحكومات بالعمل التطوعي بصفتــه مصـدرا مـن المصـادر الإستراتيجية الـتي يمكـــن أن تتــأثر تــأثرا إيجابيا بالسياسة العامة للدولة حتى أنه من الأندر أن يعتــبر عـاملا مـن عوامل إستراتيجية التنمية الوطنية والدولية. ويمكن للحكومات أن تقوم بدور جيد في تحديـد الطـرق الجديـدة لتنظيـم وتسـخير العمـل التطوعـي مــن أجل دعم سياساتها وبرامجها الاجتماعيـة. ولا يتمثـل التحـدي في الاسـتعاضة عـن النمـوذج الحكومـي المتمثـل في توفـير جميـع الخدمات بنموذج يعتمد فيـه المجتمـع المحلـي علـى الـذات، وإنمـا في الدمـج بينـهما بحيـث يعـزز كـــل منــهما الآخــر. فليــس في مقــدور الحكومــات أو المجتمــع المــدني التصــــدي للتحديـــات المتمثلـة في تحقيـق تنميـة عادلـة ومســـتدامة. وإنمــا يحتــاج كــل منهما للتعاون لتكملة بعضهما البعض.

ولا يعتبر الاعتماد على العمل التطوعي بأيـة حـال مـن الأحوال ســــببا منطقيــا لخفـض الجهــــــد الحكومـي. كمـا أنـه لا يمثل حجة لاســـــــتغلال عمـل المتطـــــوعين بـــــــدون أجـر. ولا تعمـل الحكومـة ومـن خـــلال ترحيبــها بشــبكة شــركائها وتوسـيعها مـن أجـل تقليـص دورهـا ومســـؤولياتها المشــروعة.

ولا ينبغي أن يكون بناء الشراكات إستراتيجية يفرضها نقص الأمـوال العامـة مـهما كـانت حقيقـة هـذه المشـكلة إذا كــانت النتيجة المرجوة هــي تحقيـق التعـاون الكـامل مـن جـانب جميـع أصحاب المصلحة. وتستند الحجـة المؤيـدة لمشـاركة المواطنـين علـى إستراتيجية مضمونــة النجــاح، وليــس علــى إستراتيجية تصادميــة أو إستراتيجية للخيـــار الثـــاني الأفضـــل. وتكـــون الشـراكات بـين القطـاعين العـام والخـاص مسـتصوبة بقـدر مــا تساعد في زيادة فعالية وشمـول الـبرامج الحكوميـة، وتعزيـز ثقـة المواطن والمجتمع المحلي في نفسه وفي حكومته.

تشـجيع العمـل التطوعـي هـو إحـدى الوســائل الــتي تستطيع بها الحكومات زيادة فــرص لنجـاح وفعاليـة التكـاليف لمبادراتهــا الإنمائيــة الوطنيــــة. وممـــا يؤســـــف لـــــه أن العمـــل التطوعي غالبـــا ما يتم التقليل من قيمته بوصفه مساهمة عينيـة ببساطة. وعلى العكس مـن ذلـك يمكـن أن تكـون المسـاهمات التطوعية عاملا حاسما في زيادة رأس المال المادي والبشـري في مجــالي الإنتاجيــة والنمــو.

وغالبــا مــا يشــمل تشــجيع العمــل التطوعي إنعاش قيم سـاكنة كـانت موجـودة باسـتمرار سـواء عـبرت عنــها مجموعــات قبليــة أو مجــالس قرويــة أو رابطــات العــون المتبــادل أو الرابطــات النســائية والشــبابية للمســــاعدة الذاتية لكنها تأثرت سلبيا بسبب الحروب أو الفقر أو بسـبب الأوبئة أو تكون في بعض المجتمعات قد تأثرت بسـبب تقلـص نظـــم الدعـــم مثـــل الشـــبكات الأســـرية وشـــبكات القرابـــة والمؤسسات الدينية. ويمكن أن يصبح أثر الاستثمار الحكومي في رأس المــال الاجتمــاعي أكـــبر علـــى الأقـــل مـــن أشـــكال الاستثمار الأخرى وربما أكثر استدامة.

إن إحـدى الاستراتيجيات لتشــجيع العمــل التطوعــي هي اللامركزية في تخصيص الموارد والسلطات، وذلك لتقريب وكالات تقديم الخدمات من المجتمعات المحليـة وتعزيـز سـيطرة هذه الأخيرة على هذه الخدمات وزيادة فرص المسـاءلة العامـة في برامــج القطــاع العــام. وتتيــح هـــذه السياســـات الفـــرص لمشاركة الآباء في المدارس، وتيسر مشاركة أفراد المجتمع المـدني في برامـج إمــدادات الميــاه والــري وإدارة النفايات، وتشــجيع المزيـد مـن الفـرص المـدرة للدخـل بفعاليـة للفقـراء. ويتعــين أن تشــرك المبــادرات الإنمائيــة علــى الصعيــد المحلــي وباســــتمرار المسـتخدمين الذيـن يرغبـون في اسـتثمار وقتـهم الخـــاص وهــو استثمار ينبغي الاعتراف به ومكافأته.

ولكي تعزز الحكومة من دور المبادرات الاجتماعية المساعدة لتنفيذ السياسات والبرامج الحكومية فان هناك خطوتان لابد أن تقوم بها الحكومات هما:

- الخطوة الأولى: تكمـــن الخطـــوة الحيويـــة الأولى في الســـعي لإقامـــــة التـوازن بـين الواجبـات والمسـؤوليات في الاتفـاق علـى بعـــض الافتراضات الأساسية التي تشمل:

(أ) أنــه ليســت هنــاك ضـــرورة للتعـــارض بـــين واجبـات الدولـة في توفـير الخدمـات الاجتماعيـة ومســؤوليات المواطنين في زيادة الفوائد المستمدة من هذه الخدمات؛

(ب) أنــه ليســت هنــاك ضـــرورة للتعـــارض بـــين السياسات العامة المطبقة من أعلـى إلى أسـفل وبـين المبـادرات التي يقوم بها المجتمع المحلي من أسفل إلى أعلـى في مجـال تقـديم الخدمات وتعزيز المبادرات التطوعية المحلية؛

(ج) أنه ليست هناك ضرورة للتناقض بـين العمـل التطوعـي بوصفـه شـكلا مـن أشـكال الالـتزام الاجتمـاعي مـن جهـة ومـن جهـة أخـرى بوصفـه عمـلا إنتاجيـا.

- الخطوة الثانية: تتمثل الخطوة التالية في جمع وتجـهيز البيانـات بشـأن الأثر الإيجابي لشبكات الدعم الاجتمـاعي والصلـة بينـها وبـين العمل الحكومي إذا وجدت واتسـاقها معـه. ومـن شـأن ذلـك أن يبــدد المخــاوف، وأن يســاعد في إقامــة وتوطيــد علاقـــات جديدة لبناء الثقة والحوار والتعاون.

 

http://ademrights.org

ademrights@gmail.com

https://twitter.com/ademrights

اشترك معنا على التلجرام لاخر التحديثات
https://www.telegram.me/
التعليقات