مقالات

شهر رمضان شهر التنمية البشرية

   خصّ الله سبحانه وتعالى شهر رمضان من بين الأشهر بفضائل كثيرة، وهو عند الله أفضل الشهور، وأيامه أفضل الأيام، وساعاته أفضل الساعات، وفيه ليلة القدر، وليلة القدر خير من ألف شهر، وهو الشهر الذي أُنزل فيه القرآن، هدىً للناس وبينات من الهدى، وهو شهر ينتظره المسلمون لأهميّته ومكانته، حتّى يغتنموا ما فيه من الخيرات والحسنات.

ففي خطبة النبي (ص) (أَيُّهَا النَّاسُ! إِنَّهُ قَدْ أَقْبَلَ إِلَيْكُمْ شَهْرُ اللهِ بِالْبَرَكَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ. شَهْرٌ هُوَ عِنْدَ اللهِ أَفْضَلُ الشُّهُورِ، وَأَيَّامُهُ أَفْضَلُ الأَيَّامِ، وَلَيَالِيهِ أَفْضَلُ اللَّيَالِي، وَسَاعَاتُهُ أَفْضَلُ السَّاعَاتِ. هُوَ شَهْرٌ دُعِيتُمْ فِيهِ إِلَى ضِيَافَةِ اللهِ، وَجُعِلْتُمْ فِيهِ مِنْ أَهْلِ كَرَامَةِ اللَّهِ. أَنْفَاسُكُمْ فِيهِ تَسْبِيحٌ، وَنَوْمُكُمْ فِيهِ عِبَادَةٌ، وَعَمَلُكُمْ فِيهِ مَقْبُولٌ، وَدُعَاؤُكُمْ فِيهِ مُسْتَجَابٌ)

والسؤال هنا، إذا كان هذا الشهر يحظى بهذه الأهمية والمكانية المميزة، فكيف يتمكن الناس من استثمار ساعاته وأيامه ولياليه؟ كيف يمكن أن يعززوا من الفرص المتاحة فيه لتنمية السلوك وصقل المهارات؟ كيف يتمكنوا من تحسين الأواصر الاجتماعية، وتطوير القطاعات الفكرية والتعليمية والصحية والاقتصادية؟ فقد ترسخت القناعة بأن الإنسان هو المحور الرئيسي لعملية التنمية، وهو الأداة والغاية التي يمكن من خلالها الوصول لمستقبل أفضل يشمل البشرية جمعاء.

تُعرف "التنمية البشرية" أنها عملية تغيير اجتماعي مخطّط يقوم بها الإنسان للانتقال بالمجتمع إلى وضع أفضل، وبما يتوافق مع احتياجاته وإمكانيّاته الاقتصادية والاجتماعية والفكريّة. وفي تعريف آخر لـ"التنمية البشرية المحلية" هي القيام بمجموعة من العمليات، والنشاطات الوظيفية، والتي تهدف إلى النهوض في كافة المجالات المكونة للمجتمع المحلي.

تصف الأمم المتحدة التنمية البشرية بالعبارات التالية: التنمية البشرية هي عملية تتضمن توسعة خيارات الناس. ويتم تحقيق توسعة خيارات الناس عن طريق توسعة القدرات البشرية... على كافة مستويات التنمية. وإن القدرات الأساسية الثلاث للتنمية البشرية هي أن يحيا الناس حياة مديدة وصحية، وأن يحظوا بالمعرفة، وأن يتمتعوا بمستوى لائق من المعيشة. وإذا لم يتم تحقيق هذه القدرات الثلاث، فإن العديد من الخيارات لن تكون ببساطة متاحة، وستبقى العديد من الفرص متعذر الوصول إليها.

تتجسد رؤية التنمية البشرية في الإسلام في قضية الخلافة وفلسفتها في العلاقة بين الإنسان والكون ومالكهما رب العالمين، وهو مفهوم يجمع بين التنمية الروحية والمادية، ويعلي من شأن النفس الإنسانية، ويضعها موضع التكريم اللائق بها. وتهدف التنمية في الإسلام بصفة أساسية إلى تحقيق الأمن المادي من الجوع والأمن المعنوي من الخوف (الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ).

يريد الإسلام من خلال التنمية، توفير الحياة الطيبة الراقية لكل إنسان، حياة تسمو بالروح والجسد، ويسودها روح الأخاء والتكافل والمودة والرحمة، وترفرف عليها مظلة الأمن والعدل والحرية والمساواة، وتخلو من شبح الجوع والخوف والكراهية، وتراعي العدالة في توزيع الدخول والثروة، حتى لا يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم.

ركز الإسلام على الإنسان كمحور للعملية التنموية؛ لأنّه الكائن الوحيد القادر على الإصلاح والتغيير والبناء وكذلك التطوير، وذلك بسبب الميزات التي خصّه الله سبحانه وتعالى بها دون عن غيره من المخلوقات الأخرى من ضمنها العقل والتفكير، حيث إنّ الدين الإسلامي حارب المفاهيم السلبية التي تقف حائلاً دون وقوع التنمية في المجتمع كالكسل، والاتكالية، وعدم السعي والأخذ بالأسباب، بالإضافة إلى التخلف والجهل وكذلك الفقر.

في الواقع، يحل شهر رمضان كل عام على الناس حاملا معه حقيبته الفريدة المشتملة على نظام حياة جديد، فيه أوقات طعام محددة، وأوقات نوم مغايرة عن باقي الشهور، وكذلك نوع من التكليف والمشقة لا يجدها الناس في غيره من الشهور، وبالمقابل هناك أبواب مفتحة من الرحمة والإفاضة الإلهية، ونوع من الضيافة الربانية للناس لا مثيل لها في غيره من شهور السنة. وعليه، يمثل شهر رمضان، بما خصه الله عز وجل من فضل دون سائر الشهور، فرصة ثمينة لكل من يخطط ويرسم من أجل التنمية الذاتية والمجتمعية، وهو الزمن الأنسب لضمان النجاح، لوجود تلك الأجواء الروحانية العامرة بكل ما هو مناهض للشر ومقرّب للخير.

ويمكن للأفراد والجماعات التي تريد أن تبني مستقبل أفضل لها، وتريد أن تحسن مستواها الاقتصادي، وتعزز الأواصر الاجتماعية، وتقضي على تفشي ظواهر الفساد، أن تعد في هذا الشهر المبارك برامجا تربوية واجتماعية واقتصادية وتعليمية وتأهيلية، ومنها:

- برامج التنمية الذاتية: يُعد شهر رمضان فرصة للالتفات للذات وتهذيبها وصقل مواهبها. ورمضان يوفر لنا الفرصة للوقوف مع أنفسنا وقفة مراجعة وتأمل من خلال صفاء النفس التي تأخذ فرصتها لوقفة مع الذات يوفرها الصيام والقيام، خصوصا إذا توفرت الإرادة لذلك، فإرادة التغيير هي الأساس في تطوير النفس بهدف الوصول للنجاح، فتأهيل الذات وامتلاك المهارات مع وضوح الهدف مطلب ملح وضرورة مؤكدة للقيادة نحو النجاح في ميادين الحياة.

ويلخص العاملون في هذا العلم أهدافه في ثلاثة نقاط أساسية هي: تطوير وتأهيل الذات الإنسانية والارتقاء بها، واكتشاف القوى الكامنة وتوظيفها، وتكوين الشخصية الإيجابية القادرة على صناعة النجاح والتميز.

- برامج الزيارات الاجتماعية: الزيارات الاجتماعية والدينية هي محطات يتزود فيها الصائم العلم والقيم، وتتوحد عبرها العلاقات الاجتماعية، فتمهد الطريق لإقامة المجتمع الإسلامي القائم على العدل والصدق والوفاء، فمن الضروري على كل صائم في هذا الشهر الكريم أن يضع لنفسه برنامجاً لزيارات العتبات المقدسة ـ معصومين كانوا أو علماء أو صلحاء، وان يتفقد ذوي الأرحام، فهذه الزيارات من أفضل الأعمال.

- برامج دعم الفقراء: إن نسبة كبيرة جداً من الشباب في البلاد الإسلامية يعانون من البطالة أو من البطالة المقنَّعة. فكان لابدّ من التفكير بهؤلاء لأنهم أولاً طاقة تُهدر بلا مبرر. وثانياً أن البطالة مفسدة؛ وقد تسبب في انحراف المجتمع. وثالثاً يمكن أن تقدم هذه الطاقات لو استثمرت، الكثير من الفوائد المرجوة للبلاد الإسلامية. فهناك الآلاف من العاطلين عن العمل، فمرّة نقدّم لهؤلاء العاطلين وجبة طعام تكفيهم لفترة من الوقت، أو نقدّم لهم مبلغاً من المال يكفيهم ليوم واحد أو أيام. ومرة أخرى نقدم لهم ما يستطيعون به إشباع أنفسهم طيلة العمر، وذلك بأن تعطيهم رأس المال الذي يستطيعون بواسطته تأسيس محل صغير، أو أن نطلب منهم المشاركة في دورة تأهيلية تمكّنهم من العمل في مهنة شريفة.

- برامج تزويج الشباب: من الأعمال الموجبة للرحمة في هذا الشهر المبارك تزويج العزّاب والعازبات، وهي مشكلة اجتماعية لابدّ من مكافحتها بأيّة وسيلة ممكنة. فقد تكون العزوبة بداية للانحراف الجنسي والاجتماعي، والمطلوب طبعاً ليس فقط السعي لربط الزوج بالزوجة، بل تحمّل النفقات الزوجية من توفير السكن وتهيئة فرص العمل. وفي شهر رمضان يتحقّق التقارب بين العوائل فيسهل حلّ المعضلات الاجتماعية، ومنها العزوبة.

- برامج إصلاح المشكلات المجتمعية: فمن الأعمال المثاب عليها في شهر رمضان إصلاح ذات البين، فإصلاح ذات البين هو أفضل من عامة الصلاة والصيام، فكثير من المشاكل العائلية يمكن أن تحلّ في لحظة ربانية يتقرب فيها الزوج والزوجة إلى الله في هذا الشهر المبارك.

- برامج علاج المرضى: الاهتمام بالمرضى ورعايتهم هو جزء من أعمال هذا الشهر المبارك، وهو عملٌ يُنجز بقدر المستطاع، فهناك مَن يستطيع ان يقدّم الخدمات لمريض أو مريضين، وهناك من يمتلك الإمكانات التي تسمح له بأن يقدّم الخدمات لعدد كبير من المرضى، وذلك من خلال بناء المستشفيات والمستوصفات، ومخازن الأدوية المجانية وإنشاء المختبرات التحليلية.

- برامج رعاية المهاجرين والمهجرين: ظاهرة النزوح الداخلي والهجرة الخارجية هي أكثر الظواهر انتشارا في وقتنا، وهي أكثر الظواهر إيلاما وحزنا، وستظل هذه الظاهرة موجودة مادام هناك ظلم وظالم واستكبار ومتكبر. وهؤلاء بحاجة إلى العمل والى المأوى والى المال والى...

- البرامج البيئية: إن المشكلة التي تهدد الكثير من البشرية اليوم هي مشكلة التلوّث التي تسبب تلوّث ما يؤكل وما يُشرب وما يُتنفس، وأغلب أسباب التلوّث ناتجة من رمي النفايات في غير أماكنها المخصصة، فالبعض يرمي بها في البحر والبعض الآخر يرمي بها في الشارع فتسبب تلوّث الماء والهواء، وهذان أمران محرّمان، لأنهما يتسببان في أذى الناس. فكان لابدّ من التفكير الأساسي لهذه المشكلة. ووضع خطة لحل مشكلة التلوّث، وأهم مسألة في عدم تلوّث البيئة هو دعوة الناس إلى الاقتصاد في المأكل والملبس ومنح ما يفيض عن مصروفهم إلى الفقراء والى الجهات المحتاجة وبذلك نستطيع أن نقلل من النفايــــات إلى أقل ما يمكن، وبالتالي خفض نسبة الأمراض في بلادنا الإسلامية.

يقول السيد الشيرازي في وصاياه في شهر رمضان: إن أفضل الأمور التي أكدتها الروايات والأحاديث الشريفة في شهر رمضان المبارك:

1. طاعة الله، وذكره دائماً، والتوسّل إليه جلّ شأنه.

2. الإخلاص في العمل.

3. حُسن الخُلق.

4. قضاء حوائج الناس.

فلابدّ أن نستفيد من كل لحظة في هذا الشهر. ولابدّ أن نستغل كل عطاء من عطاءات هذا الشهر المبارك. ولابدّ أن يسعى كل واحد منّا ان يكون مرحوماً في هذا الشهر. وقد قال الإمام الصادق "عليه السلام": (لابدّ للخير أن يقع فاستعد أنت أن تكون من أهل الخير).

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2017

هـ/7712421188+964http://ademrights.orgademrights@gmail.com

اشترك معنا على التلجرام لاخر التحديثات
https://www.telegram.me/
التعليقات