إن كشف الحقيقة، والحق في معرفة الحقيقة هو حق أصيل لجميع ضحايا جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، والتعذيب والإعدام خارج نطاق القضاء والإخفاء القسري.
كانت البداية الحقيقية لما يمكن أن يسمي تطبيق للعدالة الانتقالية، في محاكمات حقوق الإنسان في اليونان في أواسط السبعينيات من القرن الماضي، وبعدها في المتابعات للحكم العسكري في الأرجنتين وتشيلي من خلال لجنتي تقصي الحقائق في الأرجنتين 1983 وتشيلي 1990 ومن بعد ذلك في العديد من دول القارة اللاتينية، وكذلك في أوروبا الشرقية من خلال فتح ملفات الأمن الداخلي كما حدث في ألمانيا بعد سقوط حائط برلين، وكذلك أيضا عمليات التطهير التي حدثت في تشيكوسلوفاكيا في 1989.ثم جاءت تجربة دولة جنوب أفريقيا من خلال لجنة "الحقيقة والمصالحة" الشهيرة في 1995 التي تشكلت للتعامل مع قضايا الانتهاكات الجسيمة التي تعرض لها السكان السود في جنوب إفريقيا في فترة التمييز العنصري الطويل، بالإضافة إلي التجربة الخاصة جدا التي شهدها المغرب حين قام الملك الحسن الثاني بإجراءات التحول وتسليم الحكم إلي المعارضة في عام 1995، والتي أفضت إلي إنشاء هيئة "الإنصاف والمصالحة" لتقصي الحقائق واختتمت أعمالها في دفع تعويضات للضحايا والعمل علي إصلاح وتأهيل عدد غير قليل من المؤسسات في عام 2005 وغيرها من تجارب العالم الأخرى.أما فيما يخص ما تتعامل به السلطات في البحرين مع هذه اللجان، فبعد تقرير تقصي الحقائق في البحرين والمعروف بتقرير بسيوني الذي أدان فيه السلطات البحرينية وأجهزتها الأمنية في التعاطي مع مطالب المحتجين، وما أظهره بسيوني للعالم في تقريره من حقائق تدين بل وتجرم الأفعال التي ارتكبتها القوات الأمنية وما ارتكبته من عنف وانتهاك لحقوق الإنسان، أضحت السلطات في البحرين تخشى من أية لجنة مماثلة تأخذ على عاتقها التحقيق بناءً على معلومات تصلها، ولأن تقرير بسيوني أحرج السلطات البحرينية كثيراً وهي لا ترغب بإحراجات أخرى، قامت السلطات البحرينية بإلغاء زيارة مقرر للأمم المتحدة عبر السيد (خوان ميندس) للتحقق في مزاعم التعذيب، للمرة الثانية على التوالي.فلو لم تكن السلطات البحرينية تخشى من ظهور الحقائق أمام الرأي العام والمحافل الدولية والمنظمات ذات العلاقة بحقوق الإنسان، لسمحت لأي لجنة بالقدوم والاطلاع على ما تريد الاطلاع عليه، وأن عمل لجان التحقيق يقوم في جوهره على مصلحة الضحايا، وأن تعزز حق الضحايا في معرفة الحقيقة وإقرار العدالة وإنصافهم والحصول على تعويض كامل. ويُعد كشف الحقيقة رداً حاسماً على تلك الجرائم، ففي كل مرة وبعد أي تقرير يصدر من منظمة دولية أو حقوقية تنفي وزيرة الدولة لشئون الإعلام والمتحدث الرسمي باسم الحكومة كافة المعلومات التي ترد في التقارير، بل وتكذبها، وكثيراً ما تصفها بـ(المفبركة) رغم إقرار الحكومة البحرينية بجميع النتائج التي جاء بها تقرير بسيوني.لقد تملص النظام في البحرين من التزاماته في تنفيذ توصيات بسيوني، وفي مقدمة هذه التوصيات اطلاق سراح القيادات السياسية وكل المعتقلين بسبب آرائهم، كما ان التقرير اكد ان مناهضة النظام من قبل المعارضة وعلى تباين سقوفها ومطالبها بما في ذلك الذين يقولون باسقاط النظام، انما يدخل في باب حرية الرأي، وبالتالي لا معنى لإبقائهم في السجن، ولا يستوجب سجنهم. إلا ان النظام ضرب بكل ذلك عرض الحائط، ولم ينفذ من توصيات تقرير بسيوني سوى بعض التوصيات الهامشية جدا، والتي لاتمس جوهر الازمة السياسية الطاحنة في البلاد . بل اخذ يمارس سياسات اكثر قمعا منذ صدور التقرير حتى الآن، وكأن البلاد تعيش حالة طوارئ غير معلنة وعلى غرار قانون السلامة الوطنية ولكن بشكل آخر، حيث قائمة الممنوعات المكبلة لأبسط الحقوق والحريات في ازدياد، والإفلات من العقاب للمسئولين عن الانتهاكات هو القانون السائد. ويعتبر مستشفى السلمانية الطبي شاهد على ما حدث من انتهاكات حقوق الإنسان ضد المتظاهرين منذ احتجاجات 14 فبراير، حيث تعالج الآلاف من المصابين بسبب قمع قوات مكافحة الشغب للاحتجاجات باستخدام الرصاص المطاطي، مسيل الدموع، القنابل الصوتية والرصاص الانشطاري، كما استخدم الجيش الرصاص الحي – كما وثقت جمعية شباب البحرين لحقوق الإنسان قضايا مصابين بسبب استخدام الرصاص الحي – أثناء اقتحام دوار اللؤلؤ في 16 مارس 2011 ، ومن أجل الكشف عن جميع الحقائق جاءت مهمة تلك اللجنة التي تم إلغاء مهامها من قبل السلطات البحرينية.إن ما يجري في البحرين هو انتهاك فاضح لحقوق الانسان والقوانين الدولية، فكان من الواجب التعاون مع اللجان الأممية لإظهار الحقائق والكشف عنها، وإن السلطة هناك تحاول بشكل أو بآخر استغلال المجتمع الدولي في مناطق أخرى من العالم لتستمر في انتهاكاتها القمعية وتسويفها بتنفيذ المقررات الواردة بتقرير بسيوني وأولها إطلاق سراح جميع المعتقلين وتعويض عوائل الضحايا والمفصولين السياسيين والاعتذار الى الشعب البحريني والشروع في إجراء الإصلاحات التي طالب بها المحتجون، وهي اليوم ترتكب انتهاكا آخر بإلغائها زيارة مقرر الأمم المتحدة السيد (خوان ميندس) للتحقق في مزاعم التعذيب، للمرة الثانية على التوالي.