دراسات

ظاهرة هدم الاضرحة والمشاهد... الجذور التاريخية والمسؤولية القانونية

في الربع الاول من القرن الماضي قام الوهابيون في المملكة العربية السعودية بهدم قبور أئمة البقيع والعديد من آثار الرسول الأكرم وأهل بيته وبعض أصحابه المقربين، وقبل سنوات هدم (المجاهدون) ثم (الطالبان) في أفغانستان القبور والمعابد، وتكرر الامر نفسه في شمال مالي. وكاد أن يؤدي استهداف ضريحي الامامين العسكريين في سامراء في العراق من قبل القوى السلفية المتطرفة (القاعدة) إلى حرب طائفية بين الشيعة والسنة.

واليوم يستهدف السلفيون المتطرفون في دول مايسمى بـ(الربيع العربي) مثل ليبيا وتونس ومصر المساجد والمعابد الصوفية وأضرحة الاولياء. وتؤكد الأحداث الجارية أن الجماعات الإرهابية المتطرفة في سورية تنهج ذات النهج الذي انتهجته تلك الجماعات الارهابية في العراق وليبيا وتونس ومصر؛ حيث امتدت يد التطرف لتطال العديد من المواقع الدينية والتاريخية التي تعكس تنوع وغنى المجتمع السوري وموروثه الحضاري والديني، فقد قامت هذه المجموعات بالاعتداء على العشرات من الكنائس وتخريبها ونهب محتوياتها، مثل الاعتداء الذي استهدف "كاتدرائية السيدة العذراء أم الزنار" الكائنة في مدينة حمص، والتي تحمل أهمية دينية وروحية وتاريخيّة أثريّة كبيرة، خاصة عند السوريين، حيث يعود تاريخ بناؤها إلى القرن الأول الميلادي.

والاعتداء الذي استهدف (الكنيس اليهودي التاريخي) الكائن في مدينة دمشق حيث قاموا بتخريبه ونهب محتوياته بالكامل. هذا الكنيس الذي يعود تاريخ بناؤه إلى العام 720 قبل الميلاد. وقطع رأس تمثال أثري للشاعر "أبو العلاء المعري"، وذلك بحجة أن هذا الشاعر كان كافراً زنديقاً. وتدمير ونهب مقتنيات المكتبة الاسلامية في الجامع الأموي الكبير في مدينة حلب بالكامل، والتي تعدّ من أكثر المكتبات الاسلامية قيمةً في المنطقة، وتحتوي هذه المكتبة على آثار اسلامية قيّمة ومخطوطات قرآنية تعود الى ما قبل العهد المملوكي الذي امتد من 1250 إلى 1517م.

ولم تقتصر اعتداءات تلك الجماعات الارهابية المتطرفة على البشر الاحياء بل امتدت لتشمل المراقد والأضرحة وبيوت العبادة للمسلمين والمسيحيين على حد سواء، وآخرها استهداف مرقد الصحابي حجر بن عدي بالتدمير والتهديم والنبش، وهو استهداف مشابه لتفجير مرقد الامامين العسكريين في سامراء عام 2006 والذي أثار اقتتالا طائفيا في العراق راح ضحيته المئات من العراقيين.

وهنا يأتي التساؤل المشروع عن مغزى استهداف السلفيين الجدد للأضرحة والمشاهد والحسينيات والمساجد والكنائس التاريخية في ليبيا وتونس ومصر وسوريا والعراق، وفي كل الأماكن التي امتدت إليها يد الجماعات السلفية المتطرفة مثل افغانستان وباكستان، وما هو سر هذا الإصرار والعناد في هدم هذه الأماكن المقدسة والتاريخية التي ظلت مزارا للسكان منذ مئات السنين، وهل يعبر هذا السلوك المتطرف عن رؤية الاسلام والمذاهب الاسلامية لتلك الاماكن أم هو اجتهاد وسلوك شاذ تتبناه جماعة من السلفية بحيث أصبح (مذهبا) يتمذهب به كل أولئك المتطرفون.

في هذا التقرير نريد أن نسلط الضوء على الجهات التي تقوم بهذه الأعمال ودوافعها؟ وما هي النتائج والاثار المترتبة على هدم تلك المشاهد، وما هو الدور الذي يجب أن يقوم به المسلمون والهيئات والشخصيات الاسلامية والدولية والدول والمنظمات العالمية للوقوف بحزم أمام تلك الدعوات والافعال المتطرفة التي تحدث وبشكل مستمر شرخا في العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين وتهدد التراث الإنساني والتاريخي بالفناء والزوال؟

الجذور التاريخية لظاهرة هدم الاضرحة والمشاهد

يجمع الباحثون أن هدم الاضرحة والقبور والاثار والمشاهد التاريخية هو نهج حديث يعود إلى الحركة الوهابية، وهي الحركة التي ينتسب إليها معظم السلفين المتطرفين. والسلفية الوهابية أو الوهابية مصطلح أطلق على حركة اسلامية سياسية قامت في منطقة نجد وسط شبه الجزيرة العربية في أواخر القرن الثاني عشر الهجري، الموافق للثامن عشر الميلادي على يد محمد بن عبد الوهاب (1792- 1703) ومحمد بن سعود حيث تحالفا لنشر الدعوة السلفية، وقد كانت بدايتهما في الدرعية، إذ أعلن محمد بن عبد الوهاب الجهاد فشن سلسلة من الحروب (وكانوا يسمونها بالغزوات) صادروا فيها أموال خصومهم من المسلمين بشبه الجزيرة (وكانوا يسمونها بالغنائم)وخسر العديد من المسلمين أرواحهم نتيجة هذه الحروب، واعتبرتهم مصادر عديدة أنهم بذلك خرجوا على الخلافة الاسلامية التي كانت تحت حكم العثمانيين، بينما اعتبرها الوهابية إقامةً لدولة التوحيد والعقيدة الصحيحة وتطهيرًا لأمة الإسلام من الشرك، والتخلص من العادات والممارسات التعبدية التي انتشرت في بلاد الإسلام وتراها الوهابية مخالفة لجوهر الإسلام التوحيدي مثل التوسل والتبرك بالقبور وبالأولياء، الأمر الذي جعل العديد من العلماء السنة يرى في اتهام محمد عبد الوهاب ومريديه للآخرين بالشرك مواصلةً لطريقة الخروج في الاستناد لنصوص الكتاب والسنة التي نزلت في حق الكفار والمشركين وتطبيقها على المسلمين.

جغرافيا الانتهاكات والأماكن المستهدفة

مع انتشار أتباع الحركة الوهابية المتطرفة في العالم الاسلامي، ومع فسحة الحرية التي تتمتع بها بعض الشعوب الاسلامية في الوقت الحاضر، تتسع اعمال هدم وتخريب ونسف المراقد والاضرحة والمساجد والحسينيات، وهي بدأت بمقامات النبي صلى الله عليه واله وسلم واهل بيته واصحابه ولن تنته إلا بالقضاء على كل المعالم والاثار التاريخية التي ورثها المسلمون في بلادهم مالم يتنبه العالم المتحضر إلى مدى خطر تلك الاعمال وتأثيرها بالمستقبل على تاريخ تلك الشعوب وحضارتها.

ولعل أول الاعمال التخريبية وأهمها هي:

هدم مقابر البقيع:

عمد انصار الحركة الوهابية إلى هدم وتسوية اضرحة ومقابر (البقيع) وهي المقبرة التي دفن فيها بعض أهل البيت وازواجه واولاده وبناته ومرضعته حليمة السعدية، وعماته واصحابه، وتشير الوثائق والقرائن إلى أن الوهابيين لم يكتفوا بتلك الجرائم بل حاولوا مرارا هدم قبة الرسول الا انهم غيروا رأيهم بسبب حدوث ردود فعل إسلامية قوية من مختلف البلدان الإسلامية. فاصبح البقيع وذلك المزار المهيب قاعا صفصفا لا تكاد تعرف بوجود قبر فضلا عن أن تعرف صاحبه.

تخريب ضريح الامام الحسين في كربلاء ونهبه:

جاء في كتاب (الدر المنثور) المخطوط ما هذا نصه: ان في سنة 1216 هـ كان فيها مجيء سعود الوهابي إلى العراق وأخذ بلد الحسين عليه السلام وكان دخوله إلى كربلاء ليلة 18 ذي الحجة ليلة الغدير وأباد أهلها قتلاً وسبياً، وكان عدد من قتل من أهل كربلاء (4500) رجل وانتهبت جميع ما فيها وكسر شباك قبر الحسين عليه السلام وكذا قبور الشهداء. ولم يكن استيلاؤه على جميع ما فيها بل كان استيلاؤه على ما كان دور قبر الحسين عليه السلام والنهب والقتل كان في تلك الأمكنة ولم يبلغ جيشه إلى ناحية قبر العباس عليه السلام وارتحل منها وكان أكثر أهلها في النجف.

وذكر ابن بشر الحنبلي تفاصيل هذا الحادث المؤلم فقال: ان سعود قصد أرض كربلاء ونازل أهل بلد الحسين في ذي القعدة 1216 هـ فحشد عليها قومه تسوروا جدرانها ودخلوها عنوة وقتلوا غالب أهلها في الأسواق والبيوت وهدموا القبة الموضوعة بزعم من اعتقد فيها على قبر الحسين واخذوا ما في القبة وما حولها واخذوا النصيبة التي وضعوها على القبر وكانت مرصوفة بالزمرد والياقوت وأخذوا جميع ما وجدوا في البلد من أنواع الأموال والسلاح واللباس والفرش والذهب والفضة والمصاحف الثمينة وغير ذلك مما يعجز عنه الحصر. ولم يلبثوا فيها إلا ضحوة وخرجوا منها قرب الظهر بجميع تلك الأموال وقتل من أهلها نحو ألفي رجل. ثم ان سعود ارتحل منها على الماء المعروف بالأبيض فجمع الغنائم وعزل أخماسها وقسم باقيها بين جيشه غنيمة للراجل سهم وللفارس سهمان ثم ارتحل قافلاً إلى وطنه.. الخ.

وقد نظر المستر لونكريك إلى هذه الحادثة الخطيرة فاستفزت عاطفته بتجربة حادة فقال: إذ انتشر خبر اقتراب الوهابيين من كربلاء في عشية اليوم الثاني من نيسان عندما كان معظم سكان البلدة في النجف يقومون بالزيارة فسارع من بقي في المدينة لإغلاق الأبواب، غير أن الوهابيين وقد قدروا بستمائة هجان وأربعمائة فارس نزلوا فنصبوا خيامهم وقسموا قوتهم إلى ثلاثة أقسام، ومن ظل أحد الخانات هاجموا أقرب باب من أبواب البلد فتمكنوا من فتحه عسفاً، ودخلوا البلدة فدهش السكان وأصبحوا يفرون على غير هدى بل كيفما شاء خوفهم. اما الوهابيون الخشن فقد شقوا طريقهم إلى الأضرحة المقدسة وأخذوا يخربونها فاقتلعت القضب المعدنية والسياج ثم المرايا الجسيمة ونهبت النفائس والحاجات الثمينة من هدايا الباشوات وأمراء وملوك الفرس، وكذلك سلبت زخارف الجدران وقلع ذهب السقوف وأخذت الشمعدانات والسجاد الفاخر والمعلقات الثمينة والأبواب المرصعة وقتل زيادة على هذه الأفاعيل قرابة خمسين شخصاً بالقرب من الضريح وخمسمائة أيضاً خارج الضريح من الصحن. أما البلدة نفسها فقد عاث الغزاة المتوحشون فيها فساداً وتخريباً وقتلوا من دون رحمة جميع من صادفوه كما سرقوا كل دار، ولم يرحموا الشيخ ولا الطفل لم يحترموا النساء ولا الرجال فلم يسلم الكل من وحشيتهم ولا من أسرهم، ولقد قدر بعضهم عدد القتلى بألف نسمة، وقدر الآخرون خمسة أضعاف ذلك.

تفجير المراقد والمساجد والحسينيات في العراق:

شهد العراق بين (2003-2013) موجة من الاستهدافات المتواصلة لدور العبادة والمساجد والحسينيات والكنائس في اعمال تخريبية مستمرة استهدفت مكونات الشعب العراقي لخلق فتنة طائفية واجواء من القلق والخوف لاسيما عند اقليات الشعب العراقي التي تم استهداف اماكن عبادتها ورجال الدين فيها، حيث تهدف الجماعات المسلحة من وراء عملياتها ضد دور العبادة والمشاهد والاضرحة المقدسة اثارة الرعب والخوف ومنع الناس من ممارسة طقوسهم الدينية واثارة الحرب الطائفية.

ولعل الحدث البارز في العراق والذي كاد بسببه أن تحصل حروب طائفية بين المذهبين الشيعي والسني هو إقدام العصابات التكفيرية المتطرفة على تفجير الحرم العسكري في سامراء الذي يضم بين ثنايا تربته الإمامين المعصومين علي الهادي والحسن العسكري والسيدتين الطاهرتين حكيمة أخت الإمام الهادي ونرجس أم الإمام المهدي وأيضاً تفجير سرداب غيبة الإمام المهدي المنتظر.

هدم المساجد والتعدي على الحسينيات في البحرين:

تتكرر في البحرين ظاهرة هدم المساجد والتعدّي على الحسينيات التي يمتد عمر بعضها إلى نحو ألف سنة مضت. وتشير الإحصاءات إلى أنّ الجيش البحريني مدعوماً بالقوات السعودية هدم اكثر من (٢٧) مسجداً، بعضها مكتمل البناء، وبعضها عبارة عن كبائن مؤقتة، انتظاراً لاستكمال بنائها ريثما تحصل الموافقة الرسمية على إنشاء مساجد عليها. واستُهدفت المساجد بحجة أنها غير مرخّصة. بعضها أُقيم في مدينة حمد المكوّنة من 22 دواراً، ويقطنها نحو(70) في المئة من الشيعة، وليس فيها إلا مسجد واحد. مضافا إلى حرق كتب القرآن الكريم التي كانت موجودة في هذه المساجد، الامر الذي دعا أحد أعضاء الهيئة المركزية في المجلس العلمائي في البحرين يتساءل في حديث لـ«الأخبار»: «كيف يمكن العالم الإسلامي أن ينقلب من أقصاه إلى أقصاه على قسٍّ أراد حرق مصحف واحد، بينما يصمت هذا العالم حين يحرق ويمزّق أكثر من 45 مصحفاً؟

هدم اضرحة الاولياء في تونس:

يتواصل مسلسل حرق وتخريب أضرحة الأولياء الصالحين بتونس، لتتجاوز حوالي 30 ضريحا بعد الثورة وآخرها مقام "سيدي بوسعيد الباجي"، العالم المتصوف الذي منح اسمه للقرية التي تطل على خليج تونس بالضاحية الشمالية للعاصمة وهي قبلة السياح الوافدين من مختلف دول العالم. ويوجه البعض، أصابع الاتهام إلى عناصر إسلامية متشددة باعتبارها ترى في زيارة أضرحة الأولياء الصالحين شركًا بالله.

هدم الاضرحة في ليبيا:

تقوم مجموعات مسلحة بهدم الأضرحة في العاصمة طرابلس، وقال أمين عام هيئة علماء ليبيا خالد الورشفاني إن من قاموا بهذه الأعمال من "المتشددين" قد استندوا إلى بعض الفتاوى الدينية، وأن نبش القبور وتفجير الأضرحة بالمتفجرات مسألة "خطيرة" لم يعرفها العالم الإسلامي قبل هذا الوقت.

هدم الاضرحة في مالي:

قام عناصر جماعة انصار الدين بهدم العشرات من المدافن والمراقد والاضرحة في تمبكتو في شمال مالي حيث احتوت مدينة تمبكتو على 333 ضريحا من بينها 16 تم تصنيفها من طرف اليونسكو كمواقع للتراث العالمي، كضريح سيدي محمد بن عمار الذي يحظى بمكانة رفيعة لدى سكان تمبكتو. واشار مصدر مطلع من شمال مالي بان هذه الجماعات "قد توعدوا بهدم مقامات أخرى، وإن تمبكتو تحت الصدمة، لأنهم يريدون مهاجمة وتدمير مقامات ومراقد أخرى" وقد وصف المشهد مصور محلي لمراسل فرانس برس بالقول "لقد رأيت المقام مهدما. ما حصل خطير"، وسارعت الحكومة الانتقالية إلى التنديد بالاعتداء.

هدم الاضرحة في سوريا:

قام السلفيون المتطرفون من اتباع ما يسمى بـ(جبهة النصرة) في سوريا بهدم العديد من اضرحة الاولياء واثار ومشاهد ومقامات اهل بيته واصحابه منها نبش قبر الصحابي حجر بن عدي فقد وزعت جبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة بياناً نشر على عدد من مواقع "الفيسبوك" تتبنى فيه عملية نبش قبر الصحابي الجليل حجر بن عدي في منطقة عدرا في ريف دمشق وجاء في البيان: "إن المدعو حجر بن عدي الكندي هذا الخارج عن أصول الشريعة والسنة أضحى معبوداً من قبل فرقة الرافضة وأقيمت له المعابد والمساجد خلافاً لشرع الله وبينما قام مجاهدونا بتحرير بلدة عدرا من دنس ورجس النظام الكافر تحوّلوا لتطبيق شرع الله الموكل لنا وعلى مبدأ الشريعة وبناءً على فتوى أهل العلم قامت ثلّة من مجاهدينا بقطع دابر الشرك المتمثل في "معبد حجر بن عدي الكندي" صوناً للدين والسنّة".

الاثار المترتبة على هدم الاضرحة والمشاهد

لا شك أن أضرحة ومقامات الاولياء أصبحت معلماً أثرياً وتاريخياً، وملكاً للعالم وللشعوب كلها، ولم يكن المسلمون يوما ما ينظرون إلى أصحاب المقامات والمراقد على اساس انهم اله أو شركاء للاله، بل اضحت هذه الاماكن مكانا للعبادة والتوحيد طالما يعتقد اتباعها ان الاولياء الصالحين اصحاب تلك المراقد كانوا عنوانا ورمزا للعبادة والتوحيد وكانوا اناسا صالحين مؤمنين داعين إلى عبادة الله وتوحده، ليس هذا وحسب، ففي مصر لاتزال الأصنام والمسلات والأهرامات قائمة، ومع هذا لم يعد المصريون يقدسونها ولا يعبدون الملوك الفراعنة، وفي شرق المتوسط وأوروبا لاتزال توجد الكثير من الأصنام التي كانت تمثل آله عبدتها الشعوب السابقة مثل بعل، ومينرفا وديانا وزيوس وغيرهم الكثير، لكن تطورت هذه الشعوب وصارت تعتبرها جزءاً من الممتلكات الأثرية التاريخية ولم تعد تنظر اليها كآلهة.

وعليه، فلم تحظى اعمال هدم الاضرحة بتأييد لا من قبل الشعوب ولا من قبل حكوماتها ولا الهيئات الدولية، بل كانت اعمالا مدانة ومرفوضة وتمثل اعتداء على اثار وتاريخ ومقدسات الشعوب كافة، أينما حدثت تلك الاعتداءات، سواء في المدنية المنورة حيث قبور اهل البيت النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم واصحابه، أو في العراق أو في سوريا أو في ليبيا ومالي وباكستان وأفغانستان وغيرها من الدول التي تمكن الاسلاميون السلفيون من الوصول إلى تلك الاضرحة وهدمها.

ومن هذا المنطلق يستذكر المسلمون كل عام جريمة هدم أضرحة مقبرة البقيع المطهر، كما تشهد العديد من مدن العالم الإسلامي فعاليات وتظاهرات مختلفة بمناسبة ذكرى فاجعة هدم مرقدَي الإمامين العسكريَين في سامراء، ذلك الحدث المروع الذي كشف للعالم أجمع عمق وحشية الإرهابيين ومدى تجاوزهم على كل القيم الإلهية والإنسانية.

وتدين الامم المتحدة بشكل مستمر عمليات استهداف المساجد والكنائس والمعابد في العراق فقد ادان الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بشدة التفجيرات التي تقع في العراق وخلفت العشرات من الشهداء والجرحى. وجاء في بيان أصدره المكتب الصحافي لبان كي مون أن الأمين العام يدين التفجيرات التي استهدفت مساجد شيعية في بغداد والتي خلفت عشرات الشهداء والجرحى. وأضاف أن "الهجمات التي تستهدف أماكن العبادة لا يمكن تبريرها بأي سبب سياسي أو ديني. لافتا الى انها تهدف على ما يبدو إلى إثارة الفتنة الطائفية وتقويض الاستقرار في العراق. ودعا الأمين العام العراقيين إلى الصمود في جهودهم لحل الخلافات من خلال الحوار وتحقيق المصالحة الوطنية.

كما دان الامين العام لمنظمة المؤتمر الاسلامي اكمل الدين احسان اوغلي الهجمات التي استهدفت مساجد شيعية في بغداد وكذلك التفجير الذي وقع قرب مسجد سني. وجاء في بيان اصدرته المنظمة ان امينها العام اعرب عن استهجانه لسلسة الهجمات التي استهدفت خمسة مساجد شيعية في بغداد. واضاف ان اوغلي عبر عن استنكاره الشديد لهذه الموجة من الاعمال غير الانسانية الموجهة ضد اماكن العبادة وضد المصلين.

واستنكر علماء الدين من كل الاديان والطوائف تلك الاعمال الاجرامية، فقد استنكر الشيخ جمعة عبد السيد سرار، رئيس المجلس الأعلى للتصوف الاسلامي السني بمصراتة، هدم الأضرحة، ويرى أنه فكر نجدي سعودي، مدعوم بمبالغ مالية كبيرة، ومن يقومون بالهدم في اعتقاده “خلية منظمة” تعمل على السيطرة على النظام الديني في الدولة الليبية، يقصد “التيار السلفي”، ويرى أنها حرب صوفية- سلفية، لاختلاف العقائد والمناهج، وهؤلاء – يقصد السلفيين- يرون أن رأيهم صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيرهم خطأ لا يحتمل صواباً. واستنكر حفيد الشيخ أحمد زروق، الشيخ محمد أدريس طيب حادثة هدم الأضرحة، فهو لم يبدو راضياً ازاء ما حدث من أعمال تدمير للأضرحة، خصوصاً بعد حادثة هدم ضريح أحمد زروق، الذي ولد بقرية تليوان بالمغرب، ويعد من السادة المالكية ومن أولياء الله الصالحين. ودار الافتاء الليبية أصدرت بياناً بشأن نبش القبور، اعتبرت فيه ما يقوم به بعض المسلحين من نبش القبور بقوة السلاح واخراج الرفاة منها أمرا غير جائز شرعاً ولا لائق عرفاً، وطالب مفتي البلاد الشيخ الصادق الغرياني، في بيانه بالحفاظ على الأمن، ومنع كل ما يثير الفتن والقلاقل.

وتسود حالة من الاستنكار والرفض المؤسسات المعنية بالفكر الصوفي بمصر بعد تفجير مقامات عدد من الأولياء الصالحين في ليبيا، لكن اللافت في بيانات الاستنكار ما قام به مفتي مصر الدكتور علي جمعة، الذي أصدر بيان استنكارا باسم دار الإفتاء رغم أنها هيئة حكومية لا تنتمي إلى أي جهة صوفية أو سلفية أو إخوانية.

وجاء بيان مفتي مصر شديد اللهجة، حيث وصف المعتدين على أضرحة عبد السلام الأسمر في بلدة زليتن بليبيا، وضريح العارف بالله أحمد زروق، بـ"أنهم خوارج العصر وكلاب النار، يسعون في الأرض فساداً، وتهديمًا لبيوت الله ومقدسات المسلمين، وانتهاكًا لحُرُمَات أولياء الله، وتحريقًا للتراث الإسلامي ومخطوطاته، ومحاولة لإسقاط أهل ليبيا في الفتن الطائفية والحروب الأهلية".

واعتبر مفتي مصر، علي جمعة، تلك الحادثة شبيهة بالممارسات الإجرامية الجاهلية، مطالبا كل مسلم بالتصدي لها قولا وفعلا، وداعيا المسؤولين الليبيين إلى "تطبيق حد الحرابة عليهم، باعتبارهم دعاة للضلالة ولتكفير المسلمين، جعلوا من ألسنتهم وقودًا لتأجيج نار الفتن".

وأدانت منظمة الأمم المتحدة؛ للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو)، في بيان تدنيس وحرق مقام الولي الصالح "سيدي بوسعيد الباجي"، معتبرة أن حرق هذا المكان الرمزي الذي يعود إلى القرن الثالث عشر والذي أعطى شهادة ميلاد قرية سيدي بوسعيد يمثل خطوة إضافية في حملة تدمير معالم من الذاكرة الثقافية وتاريخ تونس، وهذا التدمير التراجيدي لا يسيء فقط للتراث الروحي والمادي للبلاد ولكنه يستهدف قيم التسامح واحترام المعتقدات المختلفة والتنوع الثقافي".

كما دعت المنظمة السلطات التونسية، لاتخاذ الإجراءات العاجلة لحماية المواقع الأثرية التي تمثل ثراءً ثقافيًا وتاريخيًا في مواجهة أي اعتداء يهدد سلامتها، وأبدت اليونسكو استعدادها لتقديم المساعدة الضرورية لإعادة تهيئة المواقع التي تعرضت للاعتداء.

ويقول الدكتور منتصر حشاني -الباحث في التراث الإسلامي والمختص في علم الاجتماع لـ"إيلاف"- "إنه ولأن استنكرت وزارة الثقافة التونسية الاثنين أعمال هدم طالت زوايا ومقامات صوفية في البلاد، تمثل جزءا من التراث الوطني في بعديه المادي واللامادي، فإن السلطات المعنية يجب ان تمنع هذه التجاوزات وتضرب بقوة على يد مرتكبيها".

وأعربت اليونيسكو عن أسفها للتدمير "المأساوي" لأضرحة تمبكتو من جانب الإسلاميين المسلحين الذين يسيطرون على شمال مالي، وذلك بعد يومين من إدراج اسم هذه المدينة على لائحة اليونيسكو للتراث العالمي المعرض للخطر. ووصفت أليساندرا كامينز رئيسة اليونيسكو في بيان لها هذا التدمير بالمأساة الجديدة، لا سيما الأضرار التي لحقت من دون سبب بضريح سيدي محمود في شمال البلاد، داعية كل الأطراف المعنية في النزاع في تمبكتو إلى "تحمل مسؤولياتها". وبحسب البعثة الثقافية في تمبكتو، فإن 16 ضريحا في هذه المدينة الواقعة بمحاذاة الصحراء والمعروفة باسم "مدينة ال333 وليا" مدرجة على لائحة التراث العالمي.

وقال د. حسن عبد الله جوهر في مقال له تحت عنوان(نبش القبور) إن مجرد التفكير في نبش القبور يحرك كامل ما يتمتع به الإنسان من إحساس وجداني بالاشمئزاز والإنكار، وبكل تلقائية ووفق كل الثقافات البشرية منذ بدء الخليقة. وما اقترفته جبهة النصرة في نبش قبر الصحابي الجليل حجر بن عدي يعد جريمة منكرة تعكس نمط التفكير ومستوى الشر الذي يكتنف عقول هكذا بشر وقلوبهم، وما يروجون له من معتقدات خطيرة، بغض النظر عن الظروف السياسية التي تعصف ببلاد الشام. ورمزية الصحابي حجر بن عدي لا تقف عند كونه من الصحابة الأجلاء، وذي تاريخ حافل بالجهاد والمشاركة في الفتوحات الإسلامية، ومنها بلاد الشام ذاتها كقائد عظيم، بل كونه من أعمدة الثورة على الظلم والانتفاضة ضد حكام الجور...

وقد وجه مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريّات -وهو أحد منظّمات المجتمع المدني المستقلّة غير الربحية، مهمّته الدفاع عن الحقوق والحريّات في مختلف دول العالم- رسالة مفتوحة إلى الامين العام للأمم المتحدة جاء فيها (توجّه لسعادتكم بهذه الرسالة لنعرب لكم عن بالغ قلقنا بسبب التصعيد الخطير والمستمر لانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها المجموعات الإرهابية المسلّحة في بعض ما يسمى بـ(دول الربيع العربي) لاسيما في سورية، التي أقدمت على تدمير ونهب الآثار التاريخية والمعالم الثقافية، بما فيها هدم قبور صحابة الرسول محمد صلى الله عليه وآله والأولياء الصالحين، كقبر الصحابي الجليل حجر بن عدي)، وجاء في رسالة المركز انه (من خلال رصدنا للأحداث والوقائع الجارية في بعض الدول العربية، تأكّد لنا أن التنظيمات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة والجماعات السلفية المتطرّفة لاتألوا جهداً في استغلال دعوة الشعوب المشروعة إلى التغيير والحرية والتنمية الاجتماعية في التعرّض إلى المواقع الأثرية والثقافية، كلما سنحت لها الفرصة، مستهدفة بذلك تاريخ وثقافة الشعوب الممتدة إلى آلاف السنين تحت ذراع وحجج واهية.

واضاف المركز (شهدت دول الربيع العربي سلسلة من الاعتداءات على المواقع الأثرية والمعالم الثقافية والفكرية، ففي تونس هُدمت وأُحرقت العديد من المقامات والأضرحة، منها ضريح الولي الصالح (سيدي أبي سعيد) الذي يعود تاريخه إلى القرن الثالث عشر. وفي مصر صدر عدد من الفتاوى عن بعض المتطرّفين تطالب بهدّم أضرحة الأولياء الصالحين ومقاماتهم. وفي ليبيا تم هدم العديد من الأضرحة التاريخية من قبل متشدّدين اعتبروا أن هذه الأضرحة هي لشخصيات صوفية تخالف التعاليم الإسلامية، مثل تفجير ضريح للعالم الصوفي (الشيخ عبد السلام الأسمر) الذي عاش في القرن التاسع عشر، وإضرام النار في مكتبة مسجد في مدينة زليطن، وإتلاف العديد من الوثائق والمخطوطات التاريخية في ليبيا. هذا بالاضافة إلى ما شهده ويشهده العراق من اعتداءات مستمرة على دور العبادة، كالمساجد والحسينيات والكنائس، وأضرحة أئمة المسلمين وأهل بيت الرسول محمد صلى الله عليه وآله).

وطالب المركز من الامين العام للامم المتحدة بالتدخل العاجل لوضع حد لهذه الانتهاكات هو أمر في غاية الأهمية في ضوء التدهور المستمر للأوضاع في سوريا، حيث أن تساهل الأمم المتّحدة والمجتمع الدولي حيال الجرائم اليومية التي ترتكبها الجماعات المسلّحة في جميع الأراضي السورية - وبشكل منهجي- قد شجّع تلك الجماعات المتطرّفة على الاستمرار في ارتكابها للانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان وللقانون الدولي الإنساني دون خوف من أيّ ملاحقة قضائية في المستقبل. لذا، فإننا نؤمن بأنه قد آن الأوان لكي تضطلع مؤسستكم الدولية بمسؤولياتها، وأن تقف بحزم تجاه تلك الأعمال الإرهابية اللاإنسانية، وأن تعمل على توفير الحماية الكاملة لكل الرموز الدينية والمعالم الأثرية والمناطق المقدّسة لكل الأديان والطوائف في سوريا وكل بلدان الصراع في الشرق الأوسط والعالم كافّة.

المقترحات والتوصيات

1- اعتبار ظاهرة هدم الاضرحة والمشاهد الدينية جريمة ضد الإنسانية، وقيام الجمعيات والمنظمات والهيئات الدولية بالملاحقة القانونية للحركات العدوانية المتطرفة التي تمارس هذا النوع من الإرهاب اما عبر الفتاوى التي تحرض على تهديم الاضرحة او التمويل او التنفيذ او التشجيع.

2- دفع الدول وخاصة تلك التي تحتضن أولئك الإرهابيين ومدارسهم والممولين لهم إلى القيام بالواجب الديني والأخلاقي والقانوني للحد من وجود وحركة أعداء الإنسان والسلام الذين ارتكبوا الفظائع الأليمة بحق كل من خالفهم في فعل أو رأي، وشوهوا صورة الإسلام الحنيف عبر إكراههم الناس على التدين بدينهم.

3- مطالبة مراكز الفتوى والمجمعات الفقهية والمؤسسات الدينية - ومن جميع المذاهب الإسلامية - بإصدار الفتاوى الواضحة والصريحة بتحريم الاعتداء على أضرحة ومراقد الأنبياء والأئمة والأولياء والعلماء، وتجريم من يعتدي باللسان أو باليد أو بأي شكل آخر على الزائرين لتلك المراقد.

4- تقوم المنظمات الدولية الرسمية بحملة شاملة للضغط من اجل إعادة بناء قبور أئمة البقيع وارجاعها بشكل افضل مما كانت عليه قبل هدمها، لان بقاء مقبرة البقيع بهذا الشكل يعد إهانة للعقيدة والتاريخ الإسلامي وانتهاكا للتراث الإنساني، ويعد بقاءها بهذا الشكل تحريضا على العنف والكراهية وعلى شرعية استهداف الأماكن العبادية المقدسة للشيعة والمسلمين ومختلف الأديان. وهذا يعتبر من المسؤوليات الكبرى للأمم المتحدة في التحرك من اجل الضغط على الحكومة السعودية لإعادة بناء مقبرة البقيع بما يتناسب مع أسس الكرامة الإنسانية واحترام حقوق الانسان.

ومن واجب المنظمات الدولية ان تبين للسلطات السعودية المسؤولية الجنائية التي تتحملها هذه السلطات بما تقوم به من انتهاك لمقبرة البقيع حيث يعد هذا الفعل تحريضا إرهابيا على هدم كافة الأماكن العبادية والاثرية والتاريخية.

5- مطالبة مؤسسات المجتمع الدولي والهيئات المختصة بمراقبة ومحاسبة القنوات الفضائية والأرضية والإذاعية ومواقع الإنترنيت والمؤسسات والمنتديات الإعلامية والثقافية والمكتبات والصحف والمجلات التي تروج أفكار التكفير والكراهية والعنف عبر نشر خطب قادة الإرهاب وتوجيهاتهم التي يحثون بها على قتل الناس، وتفجير السيارات والمدارس والجامعات والأسواق، وتدمير مفاصل الحياة المدنية الآمنة، أو بث صور عمليات التعذيب وقطع الرؤوس عبر أقراص ليزرية وممغنطة. أو بيع الكتب والصحف والمجلات التي تخدم تلك الحركات الإرهابية.

6- القيام بحملة تثقيفية علمية وواسعة (على المدى القصير والبعيد) لترسيخ قيم المحبة والسلام والتعاون والتعايش والتسامح والحوار التي حثت جميع الرسائل السماوية والمبادي الإنسانية على التمسك بها، كما وقد اعتمدتها دساتير جميع دول العالم...

7- دعوة الدول والحكومات والهيئات الدولية ومنظمات المجتمع المدني للشروع بحملة عالمية كبرى - جادة - للقضاء على دوافع نشوء العنف والكراهية والجريمة في الفرد والمجتمع: الفقر، المرض، الجهل، الاستبداد، الظلم، القهر، الكبت، البطالة، القمع، الاستعباد، الاستغلال..!

 

اشترك معنا على التلجرام لاخر التحديثات
https://www.telegram.me/
التعليقات